الموهبة.. أصلاً!
حسن حميد
أعلام كثر، مروا في الحياة مروراً نورانياً لصيقاً بالناس جيلاً بعد جيل، ومنهم الأدباء والشعراء، لأن حضورهم ما زال وافراً بمعانيه وترسيماته، ووافراً بما استحوذ عليه من جمال وغنى، ومن هؤلاء الأدباء النورانيين جبران خليل جبران (1883- 1931) الذي عاش حياة قصيرة، لكنها ملأى بالحضور والإبداع والدروس الجميلة، فهو، ومن بلاد المهجر حيث عاش، كان المنادد الأكبر لشعراء العربية في الوطن العربي بشعره، فقد كانت قصيدته حين تنشر في البلاد العربية، في القاهرة أو بيروت أو دمشق أو القدس، تصير حديثاً للجمال والرفعة واشتقاقات اللغة ومباني العمارة الفنية للقصيدة وهي في تمظهراتها الحديثة المتجددة، عدا عن أنها تُحفظ كما لو أنها نشيد وطني، وتُغنى أيضاً لأن إيقاعاتها أجراس، وخصوبتها وغناها تمثل خصوبة البراري وغناها في آن.
ولم يكن الشعراء وحدهم من يتابع قصيدة جبران بل أدباء النثر أيضاً، وأهل الثقافة عموماً كانوا يتابعون كتاباته النثرية لأن طاحونة الحديث الوافي ستدور في الصحف والمجلات والمقاهي الثقافية حول المعاني التي يكتبها، وحول مبانيها وغناها وامتلائها الثقافي البهّار، وثقل الموهبة التي تجول مجازاً في جوانب روح جبران مثل الطيور، فقصيدته تقرأ في البلاد العربية بوصفها قصيدة لمعلم من معلمي الشعر وكتّابه وصنّاعه المعدودين، وكذلك كانت حال نثره الجميل لهذا رافقها التأييد لكي تقرّ في المناهج الدراسية في غير بلد عربي، وعبر مروحة واسعة من الموضوعات المختلفة المتعددة.
نثر جبران خليل جبران عرف الشهرة والانتشار والحوارات الكثيرة والمتداخلة، حين تلقفته الحياة الثقافية العربية ممثلة بالصحف والمجلات والمنابر، والصالونات الأدبية المعروفة في عواصم الثقافة العربية آنذاك (القاهرة، بغداد، دمشق، القدس، بيروت) من جهة، وممثلة بقولات النقاد العرب الذين راحوا يقرؤونه مثلما يقرؤون الكتب العزيزة من جهة أخرى، وقد حيّرت نصوص جبران النثرية النقاد والدارسين، فاختلفوا في النظرة إليها، وتمايزوا في تصنيفها وأخذها إلى أيٍّ من أجناس الأدب المعروفة، فقالوا عن نصٍ له إنه قصة قصيرة، بينما عدّه آخرون رواية صغيرة، وقالوا عن نص آخر إنه مقالة بينما عدّه آخرون قصيدة نثر، وهكذا اختلفوا لأن إبداع جبران خليل جبران كان مختلفاً وجديداً، لأن وجوه البراعة والاشتقاق والافتراع البادية منه كانت مختلفة وجديدة ومتنوعة أيضاً؛ ومثلما شغلت قصائد جبران النقاد العرب شغلت نصوصه النثرية النقاد العرب أيضاً، ومثلما تعددت الآراء حول شعره تعددت الآراء أيضاً حول نثره، بل ما زالت الحيرة ماثلة إلى يومنا الراهن، فمن يستطيع تجنيس كتابه المذهل (النبي)، وفي أي خانات الإبداع يوضع، إنه، من دون شك، عصي على التجنيس!
ولعل هذا أحد وجوه الثقافة الكبيرة التي تحلّى بها جبران، وأحد وجوه الموهبة الأدبية التي كانت قادرة على النفاذ من أُطر التجنيس وحدوده، ولذلك غدت مؤلفات جبران خليل جبران فصولاً ثقافية تتالى على مرّ الأزمنة لكي تعرفها الأجيال المهمومة بالثقافة والإبداع.
لم يكن وراء جبران خليل جبران سوى موهبته التي أعطت نصوصاً هي اليوم في حكم الثوابت الأدبية والإبداعية، بل كدت أقول هي اليوم ينابيع آبدة لابدّ لأي مهموم بالثقافة والأدب والإبداع من أن يمرّ بها لا ليعرفها بل ليرتوي منها، لأن المار بها سيُمسّ بنورانيتها ولهذا سيتلبث عندها طويلاً..
أتحدث عن جبران خليل جبران، كي أشير إلى حالات الاستقواء الخارجية، البعيدة عن الموهبة، التي يراد لها، في أيامنا الراهنة، أن تمنح النصوص المطفأة جمالاً وحضوراً، لكن من أين للذي ولد جافاً يبساً أن يغدو طراوة ونداوة فيخضرّ ويزهر ويثمر، إنها معضلة، إن لم تكن استحالة!
Hasanhamid55@ yahoo.com