اقتصادياً.. هل اختفت أو ذابت لصالح غيرها؟! زيادة الإنفاق وتراجع الدخل أسهما في انحسار حجم ودور الطبقة الوسطى
“البعث الأسبوعية” ــ أحمد العمار
حتى عندما نتخطى الجانب الاجتماعي إلى نظيره الاقتصادي، تبقى الطبقة الوسطى في المجتمع- أي مجتمع- محرك النشاط والمساهم الرئيس في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي فإن اختفاءها، أو ذوبانها، لصالح الطبقتين الأخريين (الدنيا والعليا، أو الفقيرة والغنية) يعني أول ما يعني إنعكاسات خطرة على المجتمع، من شأنها إضعاف الإنفاق الاستهلاكي، والحد من التواصل والتفاعل الاجتماعيين اللذين يستلزمان وجود حدود معقولة من توافر القوة الشرائية المساعدة على ذلك..
إزاء ذلك كله، أين أصبحت الطبقة الوسطى لدينا؟ وكيف أثرت الأزمة عليها؟ وماذا عن عمليات “الحت والتآكل” التي تعرضت لها جراء ارتفاع أسعار السلع والخدمات، في موازاة تراجع أو محدودية مصادر الدخل؟ وكم باتت نسبتها المئوية من المجتمع؟
استبيان مبسط
أجرت “البعث الأسبوعية” استبيانا مبسطاً – عبر الفيسبوك – بهدف الوقوف على آراء شرائح مختلفة من الناس، حول توصيف وواقع هذه الطبقة في سورية “اقتصادياً”، حيث تضمن هذا الاستبيان المحاور التالية:
– هل تعتقد أن الدور الاقتصادي للطبقة الوسطى في سورية تراجع أو انتهى؟
– بكم تقدر نسبة هذه الطبقة من المجتمع؟
– برأيك.. ما هي أبرز ملامح هذه الطبقة، أي طريقة إنفاقها وأسلوب عيشها؟
– اغن الاستبيان بمعلومة تراها مناسبة.
بين يدي الاستبيان..
بالرغم من تفاوت الآراء حول هذه الطبقة، إلا أن هناك إجماعاً على أن الواقع الاقتصادي والمعيشي، وزيادة مستلزمات واحتياجات الأسرة، ومحدودية الدخل، وغيرها.. كلها كانت معاول هدم لجسمها الذي بات نحيلاً، ولدورها الذي بات هو الآخر ضئيلاً، ما غيّر أنماط وعادات الاستهلاك، وقلل سقف الإنفاق لديها إلى حدود قريبة من جارتها الفقيرة، وهذه بعض الآراء:
– مدرس: برأيي لم تعد هذه الطبقة موجودة إلا بنسبة قليلة لا تتجاوز ٢٠% من المجتمع، حيث تراجع دورها، ولم تعد فاعلة كثيراً.
– مفتش: لقد انعدمت الطبقة الوسطى، وأصبحت تحت خط الفقر.
– صحفية: لم يعد في سورية طبقة وسطى، لأن الوسطى صارت معدمة وفقيرة، وتتجاوز نسبتها ٨٠% من المجتمع، الذي أصبح طبقتين: واحدة تحت خط الفقر، وأخرى غنية مترفة.
– محاسب: تراجعت بنسبة 96 بالمئة، وهي أكثر الطبقات خوفاً على وضعها الاقتصادي، بسبب عدم امتلاكها لاحتياطي الإنفاق، وعدم تقبلها للسقوط تحت خط الفقر.. لذا هي تنفق بحذر شديد.
– مصمم فني: الطبقة الوسطى التي متوسط دخل الأسرة فيها لخمسة أشخاص مليون ليرة سورية، مع ملكية بيت، كشرط أساسي، وبالنظر للريف الذي يشكل 70% من المجتمع السوري تقريباً، أعتقد أن هذه الطبقة موجودة بحدود 10%.
– أكاديمي: أعتقد أن نجاح اقتصاد أي بلد يعتمد بالدرجة الأولى على الطبقة الوسطى، التي تتكون من حرفيين وصناعيين وأصحاب مهن حرة وصغار تجار، وسابقاً كانت هذه الطبقة تشكل في بلدنا أكثر من ٧٠%، ولكن هذه الطبقة في الحالة الراهنة سُحقت تماماً، حتى أصبحنا أمام طبقتين: فقيرة جداً وغنية جداً، ما أثر على الاقتصاد بشكل ملحوظ.
– كاتبة: لم تعد في بلدي طبقة وسطى..!
– مصرفي: الضرب في الميت حرام، عن أية طبقة وسطى تتحدثون؟! طبعاً لا توجد..!
– مديرة مكتب إعلامي ﻷحد المصارف: الطبقة الوسطى في بلادنا تتلاشى، كما أن دورها الرئيس في تراجع ملحوظ، إذ تحولت من داعمة للاقتصاد إلى مستهلكة، وأبرز ملامح هذه الطبقة حالياً هي الجهاد للمحافظة على ما تبقى لديها من رمق للاستمرار فوق خط الفقر بقليل، والملاحظ من طريقة إنفاقها أنها تكاد تستغني عن معظم الكماليات، أن لم يكن جميعها، كما أن نسبتها في المجتمع لا تتجاوز حالياً الثمانية بالمئة، كحد أقصى، ومعظم أبناء هذه الطبقة من محدثي النعمة، أو ما يمكن أن نسميهم بـ “أثرياء الحرب”، لافتة إلى أن هناك عدداً كبيراً ممن كانوا ينتمي إلى هذه الطبقة، هاجروا خارج البلاد، وهذا سبب إضافي أسهم في تلاشيها.
– مدير مؤسسة إنتاج إذاعي وتلفزيوني: يبدو لي أن الطبقة الوسطى في سورية لم تعد أحادية التوصيف، فهناك شرائح عليا ومتوسطة وسفلى في هذه الطبقة: العليا تضاءلت جداً، وما تبقى منها صعد للطبقة الغنية، بفعل مكاسب الحرب الاستثنائية، أما الشريحتان، المتوسطة والسفلى، فتقلصتا على نحو كبير جداً، بفعل سقوط معظمها جراء الحرب إلى الطبقة الفقيرة، فحصل ما يمكن أن نسميه تقاطباً بين الطبقتين الأولى والثالثة، وهذا يؤخر أي فعل تطوري حقيقي، لأن عمق القوة الفاعلة خرج من المعادلة.. عذراً على حجم التنظير، لكنها رؤيا تحتاج إلى توسيع دائرة النقاش فيها، وعنها، وحولها..
– أكاديمي: لقد اختفت الوسطى، وأصبح هناك فارق طبقي كبير بين الطبقتين العليا، والمسحوقة التي لا تستطيع تأمين القوت اليومي لأفرادها..
– مدير سابق في قطاع التأمين: هذه الطبقة هي الشريحة الدنيا عددياً منذ مدة ليست بعيدة، والخطير في الموضوع أنها طبقة المثقفين والحرفيين وأصحاب الشهادات العلمية والمفكرين. وبالتالي فإن انزلاقها، الذي أصبح حتمياً، إلى طبقة الفقراء، يقلص الفكر والابتكار إلى حدوده الدنيا، ويشيخ معه المجتمع، لذا تصبح الأفكار هدامة، لأنها تصدر من طبقة تدعي العلم، والفقر والفكر لا يجتمعان في أي مجتمع كان!!
– إعلامي: انتهت.. انعدمت، مع أنها قادرة على توليد فرص عمل مهمة كماً ونوعاً، وبشكل مباشر وغير مباشر، نتيجة لتنوع متطلباتها، وميلها لتحقيق الأفضل مادياً واجتماعياً.. الحرب والأزمة واستشراء الفساد وانحطاط الأخلاق ولدت طبقة مسخاً، يمكن أن نصفها بالوسطى، نسبتها لا بأس بها، وهذه الطبقة تمثل أذرعة الفساد، وتجني المال من تأدية دور السمسرة والمتاجرة وتكريس الفساد خدمة لذاتها وغيرها من الطبقات..
وهذه الملامح..
ثمة ملامح مشتركة لأنماط الحياة والاستهلاك لهذه الطبقة، سواء في أوقات الرخاء، أم الأزمات، فمثلاً ونتيجة للأزمة وظروف الحرب، توقف أفراد هذه الطبقة عن التسوق من محال وأسواق بعينها، واكتفوا بشراء الممكن والأرخص؛ كما توقفوا عن شراء بعض ماركات العطور والبدل والجلديات، وغيرها، في وقت شدوا الحزام عندما تعلق الأمر بنفقات النقل والسياحة ووسائل الترفيه..
واختلفت عادات الشراء كماً، مثلما اختلفت كيفاً، إذ بات شراء الخضار والفواكه بالكغ، ولربما بالحبة، بدلاً من الشراء بالصندوق، كما بات استهلاك اللحوم والأسماك محدوداً جداً، علماً بأن الأسرة في هذه الطبقة لديها دخلان كحد أدنى: أحدهما ليس من الوظيفة الحكومية، بل من أعمال مدرّة للمال (عيادات، أعمال تجارية، محاماة، حرف متميزة، إلخ..)، وتشير بعض التقديرات إلى أن مثل هذه الأسرة تحتاج إلى دخل شهري يترواح ما بين 700 – 750 ألف ليرة في المدينة، و500 – 550 ألفاً في الريف، لتمارس حياتها على نحو متواضع ومتقشف..!
توصيفان
هناك توصيفان لهذه الطبقة، كما يرى الباحثون والمختصون: الأول اقتصادي يركز على حجم الإنفاق الأسري ونوعه، وبالتالي ينتمي لها كل من يستطيع تلبية احتياجاته الأساسية، والثاني اجتماعي ينظر إليها على أنها تمتلك سمات عامة متقاربة، بصرف النظر عن مستوى الرفاه المادي. ويقدر تقرير صادر عن لجنة الـ “إسكوا”، التابعة للأمم المتحدة، حول “الطبقة الوسطى في البلدان العربية – قياسها ودورها في التغيير”، أن نسبة هذه الطبقة إلى السكان كانت قبل الأزمات التي عصفت بهذه البلدان (أي حتى 2010) بحدود 45 بالمئة، فيما تراجعت حالياً إلى 37 بالمئة، أما الفئات الفقيرة والمعرضة للفقر فتشكل حالياً 53 بالمئة.
ووفقاً للتقرير، سجلت المنطقة العربية، آنذاك، نمواً اقتصادياً متسارعاً، ومن أعلى المعدلات العالمية، محققة 3.3 بالمئة، مقابل واحد بالمئة لشرق آسيا، أما البطالة فوصلت إلى 26 بالمئة، علماً بأن المعدل العالمي هو بحدود 13 بالمئة، ما يجعل هذه الطبقة بحاجة للتمكين وتوفير وظائف جيدة ونوعية.
.. لأول مرة
يعد أرسطو أول من استخدم مصطلح “الطبقة الوسطى”، عام 350 ق. م، عندما لاحظ أن للأشخاص تفضيلات ومصالح مختلفة، حسب ثرواتهم، ثم كانت هذه الطبقة المحرك الرئيس للثورة والتنمية الصناعيتين في أوروبا، خلال القرن التاسع عشر، حيث اتصفت بثلاث صفات رئيسة: التعليم، والعمالة، والرفاه الاقتصادي.