ضوء في النفق
د. نضال الصالح
يستعيد عرض مونودراما “كوفيد 19 ونصف”، الذي قدّمه المسرح القومي في حلب، بتوقيع الشاعر مزعل المزعل مؤلّفاً ونغم قوجاك ممثلة وفادي محمد سعيد مخرجاً، المفهوم الأرسطي للتطهير الذي عرّف أرسطو به في كتابه “فنّ الشعر”، في الفصل الذي اصطلح عليه بمسببات التأثير التراجيدي، فبالإضافة إلى أنّ العرض كان متعة تراجيدية، بتعبير أرسطو نفسه، كان بآن علامة دالّة على أنّ الثقافة، أيّاً كان الشكل الذي تنتمي إليه، فعل تطهير، كما هي فعل تنوير أيضاً، في مواجهة القيم السالبة للإنسانيّ في الإنسان من جهة، وفي الإعلاء من شأن قيم الحقّ والخير والجمال من جهة ثانية.
وإذا كان من بعض ما يميّز نصّ المزعل كفاءة مبدعه في مقاربة جائحة كورونا عبر شخصية واحدة، هي الطبيبة، فإنّ من بعض ما يميّزه أيضاً كفاءته في استثمار طاقات اللغة، التي تكاد تكون غير منتهية، للتعبير عن الجائحة بوصفها حلقة في سلسة طويلة من الجرائم التي ارتكبتها البشرية ضدّ نفسها، ولوصف ما يجري على كوكب الأرض، منذ أعلنت الجائحة عن نفسها، بوصفه ثقافة ممعنة في طلاقها البائن مع حلم الإنسان بملء الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
ومن البهيّ قدرة الشابة المبدعة نغم قوجاك على تحويل النصّ من كونه ملفوظاً لغوياً إلى كونه حياة على خشبة المسرح من خلال غير إشارة: تجسيدها الشخصيات التي كانت تتناسل من جسد النصّ ممثلة لطبقات اجتماعية مختلفة وسويات معرفية متعدّدة وأشكال وعي بالجائحة متباينة فيما بينها، فإيقاع حركتها على الخشبة، ثم تلك الخصوبة في أدائها الصوتيّ المتمايز بين شخصية وأخرى، وسوى ذلك ممّا يجهر بموهبة جديرة بالاحتفاء بها والتصفيق لها.
وعامة، ومهما يكن من أمر تواضع مفردات الفضاء المسرحيّ، ومن أنّ عدداً منها لم يكن له وظيفة في تثمير الحمولات الرمزية للنص، بالإضافة إلى فقره الدلالي في سينوغرافيا العرض، ومن بعض ذلك ما يعني المؤثرات الصوتية والحلول الإخراجية لهذه الجزئية أو تلك من المشاهد، فقد كان لتوقيع فادي محمد سعيد مخرجاً ما يشير إلى حساسية عالية في محاولة ترجمة النصّ إلى عرض مسرحيّ.
وبعد، فإنّ العرض، وبسبب مما سبق وسواه، يعزّز اليقين بأنّ حبل الزيف قصير مهما امتدّ، ومن ذلك الزيف الذي يخصّه محاولة ما يُسمّى مدير ثقافة حلب ضربه عرض الحائط بالتقرير الإيجابي للجنة قراءة النصوص حوله، ورفضه تجسيد مرجعه النصّي على خشبة المسرح، ثم مسارعة مديرية المسارح في وزارة الثقافة مشكورة إلى تصويب البوصلة في الاتجاه الصحيح، بعد أن توقفتُ في هذه الزاوية قبل نحو شهرين عند محاولته تلك، ولاسيما تهديده بمقاضاة كلّ من يوسوس شيطان الحقيقة له بالكتابة عن الموضوع، وبعد أن كتب غير مثقف وإعلامي متسائلاً عن تمكين مَن لا صلة نسب بينهم وبين الثقافة بمهمة صناعة الوعي، ولاسيما في هذا المنعطف الشديد الحساسية من تاريخ سورية الحديث.
وبعدُ أيضاً، وقبلُ، وأبداً، فالشكر والتقدير لكلّ إرادة مبدعة للضوء.