افتقر إلى القوة اللازمة لتصريفه.. “المستنقع” ابتلع ترامب و”القائد العام” أعلن استسلامه!!
“البعث الأسبوعية” ــ تقرير العدد
انتهى عهد ترامب في اليوم التالي لاقتحام مبنى الكابيتول الأمريكي، بعد أن أعلن أن تركيزه “يتحول الآن إلى ضمان انتقال هادئ ومنظم وسلس للسلطة”، وهو ما فسره الأصدقاء والأعداء على نطاق واسع بأنه تنازل ضمني عما كان وعد سابقاً بعدم تقديمه، قبل أكثر من 24 ساعة بقليل، خلال خطابه في حشد “لننقذ أمريكا”. في ذلك الخطاب، قال حرفياً: “لن نستسلم أبداً. لن نتنازل أبداً، هذا لن يحدث. أنت لا تتنازل عندما تكون هناك سرقة”، لكنه غير لهجته تماماً بعد أحداث يوم الأربعاء المضطربة، وبعد “عتمة” ظروف غامضة استغرقت أكثر من 24 ساعة، تكهن البعض أن أعداءه في البنتاغون، والاستخبارات، والبيروقراطيات الدبلوماسية “الدولة العميقة” أجبروه خلالها على التخلي عن القتال.
ترامب الخائن
كل ذلك دمر مؤيديه الذين انتخبوه في المقام الأول لغرض تنفيذ وعده الرئيسي بـ “تجفيف المستنقع” الذي يحتقرونه جميعاً بشدة. لقد اعتقدوا حقاً أن تغييراً مهماً طويل الأجل، ولا رجعة فيه، يمكن أن يحدث للطريقة التي تدار بها أمريكا، وهو أمر اعتقد ترامب نفسه أنه يمكنه فعله أيضاً، لكنه افتقر، مراراً وتكراراً، إلى القوة اللازمة لاتخاذ الخطوات الحاسمة من أجل القيام بذلك. وهكذا، انتهى به الأمر بأن ابتلعه “المستنقع” نفسه الذي حاول تجفيفه، وهو يلعق شفتيه بعد أن اقتات على الجثة السياسية التي أصبح عليها، منذ ذلك الحين، نتيجة استسلامه.. على الرغم من الأمل الذي ألهمه لمؤيديه، والتعلق الذي لا يزال يحظى به لدى الكثير منهم، شعر معظمهم بخيبة أمل عميقة لأنه استسلم ولم يقاتل.
لا يعني ذلك البتة أن الغالبية العظمى منهم توقعوا منه مقاومة تنصيب بايدن الوشيك، لكنهم لم يتصوروا أبداً أنهم سيرون اليوم الذي يستسلم فيه علناً بعد أن اكتسب بينهم تلك السمعة المقنّعة كـ “مقاتل” كان قال حرفياً قبل أكثر من 24 ساعة بقليل: “هذا لن يحدث!”. وقد أدى ذلك إلى عملية بحث مستمرة عن الذات بين أكثرهم تعقلاً، ممن لم يتم تلقينهم عقيدة طائفة “كيو- آنون” التي تزعم أن ترامب لا يزال يملك “الخطة الرئيسية” التي يستعد لتنفيذها. لقد انتهى عهد ترامب، وحركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” التي كان ألهمها معرضة الآن لخطر إعلانها منظمة “إرهابية محلية” في المستقبل القريب.
لم يشكك أحد بوعده بـ “عدم الاستسلام” أبداً، أو “عدم التنازل” مطلقاً، بل توقعوا أنهم لابد سيرافقونه إلى البيت الأبيض، مرة أخرى، في 20 كانون الثاني. مع ذلك، فإن تنازله أجبر العديد منهم على إعادة تقييم آرائهم عنه في صحوة متأخرة. إنه لا يخرج قط، وهو يتذمر بشروط “الدولة العميقة”، لكنه لا “يستنزف المستنقع” بالكامل. لقد كان أخطر سوء تقدير سياسي لترامب هو أنه اعتقد أنه يمكن أن يغير النظام من “الداخل” بعد أن يسيطر عليه بشكل رمزي باعتباره أول رئيس أمريكي من “الخارج” في العصر الحديث. لقد بدل على الفور صفة “الدخيل” بعيد فترة وجيزة من تنصيبه، وذلك من خلال الاستسلام لمطالب “الدولة العميقة” بإقالة مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين، وهي الإقالة التي شكلت “خطيئته الأصلية” التي مهدت الطريق لكل ما تبع لاحقاً. اعتقد ترامب، “صانع الصفقات”، أنه يستطيع التوصل إلى “حل وسط” مع أعدائه، لكن كل ما فعله كان تشجعيهم على تكثيف جهودهم التي تحركها الأخبار المزيفة للإطاحة به، ومواصلة التخريب عليه من الداخل، ومن خلال العديد من مخلوقات “المستنقعات” نفسها التي استمر بسذاجة في إحاطة نفسه بها.
انقلاب أم حركة ديمقراطية؟
يمثل الاقتحام غير المسبوق لمبنى الكابيتول الأمريكي، في أعقاب “مسيرة “انقذوا أمريكا” الترامبية، تكتيكاً كلاسيكياً للثورة الملونة، على الرغم من أنه قد قسم الأمريكيين بشكل لا سابق له حول ما إذا كان هذا التطور المذهل محاولة انقلاب ضد الدستور من قبل مؤيدي الرئيس الحالي من أجل مساعدته على المزيد من التشبث بالسلطة وعدم التنازل عن العرش خلال أسبوعين قادمين، أم أنه حراك مشروع لحماية الديموقراطية من قبل أناس يرغبون في وقف سرقة نتائج الانتخابات ومنع عناصر غير شرعية من الاستيلاء على مقاليد الحكم.
نظرياً، تشير الثورات الملونة في صورتها “الخام” إلى التسليح السياسي للحركات الاحتجاجية التي يقودها جمهور الشارع، بغرض تغيير النظام على الأغلب، ولكن أيضاً بغرض “تعديله” من خلال دفعه لتقديم التنازلات. ويشير المصطلح عادةً إلى التحريض على، وإدارة، وتوجيه عملية “التغيير من الخارج”، ولكن ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة، وما حدث على مدار نصف العام الماضي مع حركتي “أنتيفا”، و”حياة السود تهمّني”، وقبل أيام أيضاً في العاصمة واشنطن، لا يد خارجية وراءه. فمنذ حزيران الماضي، تم استخدام الحركتين (“أنتيفا” و”حياة السود تهمنا”) لأغراض الحرب الهجينة في جميع أنحاء أمريكا. ومنذ ذلك الحين، شرعت وسائل الإعلام الرئيسية والحزب الديمقراطي بشكل فعال في إضفاء الشرعية على هذه الموجة “الإجرامية التخريبية” بنظر منظري الحزب الجمهوري.
غير أن الصورة الأكبر في اللعبة هي كيف عادت هذه “تكنولوجيا الثورات الملونة” نفسها إلى قلب أمريكا، بعد إطلاقها في الخارج، بشكل مثالي، على مدى العقود العديدة الماضية. إذ لم يعد الديمقراطيون وحدهم الذين يستخدمون هذه التكتيكات، بل والمحافظون أيضاً، وهذه الديناميكية تزيد مخاطر حدوث المزيد من الاضطرابات المدينية العميقة خلال الأسابيع والأشهر القادمة،
وحان الوقت لأن يعترف الأمريكيون صراحة بانتشار تقنيات الثورات الملونة في مجتمعهم، إذ سيكون من الصعب للغاية إعادة المارد بعد خروجه من القمقم.
انتهت الحرب الهجينة
هنا، يتعين علينا أن نؤكد أن ترامب الذي كان ضحية لـ “الدولة العميقة” طوال فترة وجوده في منصبه، لم يعد كذلك بعد أن تخلى فجأة عن القتال بعد اقتحام مبنى الكابيتول. لقد استسلم أمام صدمة وذهول قاعدته، ليبتلعه “المستنقع” في وقت لاحق، ويتم تدميره الآن بلا رحمة في علامة تنذر بما ينتظر بقية حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. لو كان مضى للقتال حتى النهاية، و”لم يستسلم أبداً” – كما وعد – لكانت القصة – ربما – مختلفة تماماً؛ ولكن غرائزه في “إبرام الصفقات” استحوذت، بدلاً من ذلك، على أفضل ما لديه: في اللحظة الأخيرة كان يعتقد بحماقة أنه يمكن أن ينقذ نفسه بالاستسلام لمطالب “الدولة العميقة” التي تُظهر الآن “شكرها” من خلال فرض رقابة عليه في وسائل التواصل الاجتماعي، والضغط من أجل عزله.
لطالما اعتقدت حركة “*لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” أن البلاد كانت بالفعل في حالة “حرب” على الرغم من أن معظم لم يتمكن من التعبير عن الطبيعة الهجينة لها. لقد شعروا حقاً أن ترامب شاركهم تقييمهم للتهديدات بعد أن تعرض لهجوم “الدولة العميقة” الشرس منذ اللحظة التي خطا فيها في مسار حملته الانتخابية، لكن ما اتضح هو أنه استخف بهذه التهديدات على الرغم من أن أعداءه لم يفعلوا ذلك أبداً. أما بالنسبة لـ “الدولة العميقة” ووكلائها في الحزب الديمقراطي، فقد كانت تلك دائماً “حرباً” على طريقتهم الخاصة، والمفارقة الكبرى هي أنه بينما انتقد ترامب “الجمهوريين الضعفاء” (..) “الجمهوريين بالاسم فقط”، في خطابه الذي ألقاه في حشد “لننقذ أمريكا”، إلا إنه عاد وجسّد هو نفسه هذا الضعف في النهاية من خلال الاستسلام لاحقاً.
مع ذلك، فالحرب انتهت، وانتصرت “الدولة العميقة” مرة واحدة وإلى الأبد، خاصة وأن وكلاء الحزب الديمقراطي لـ الدولة العميقة” يسيطرون الآن على جميع فروع الإدارة؛ وبعد فشل الأربعاء، من الواضح أنه أياً كانت “الخطة الرئيسية”، التي قد يكون ترامب، أو حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى “أعدّا لها، فقد جاءت بنتائج عكسية، وتم استغلالها بالفعل من قبل خصومهما.
“الخطة الرئيسية” الحقيقية
في الواقع، وعلى عكس ما روّجت له الصحافة السائدة، كانت “الخطة الرئيسية” الحقيقية الوحيدة هي خطة “الدولة العميقة”، والتي أحبطت فعلياً كل خطوة من تحركات ترامب، وحولت في نهاية المطاف “آخر مهلة” لمؤيديه من مسيرة سلمية إلى المسمار الأخير الذي سيدقّ الآن في نعش حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”. إذ من المشكوك فيه للغاية أن يكون مبنى الكابيتول بهذا المستوى من الضعف الأمني بوجود جلسة مستمرة للكونغرس في مثل هذا اليوم التاريخي، وبعد أسابيع من التحضير لضمان سلامة الموقع استعداداً لحملة “لننقذ أمريكا” التي خطط لها ترامب منذ فترة طويلة. بل والأمر المحير أكثر هو أن بعض ضباط الشرطة أزالوا الحواجز، وفتحوا الأبواب لبعض المتظاهرين، الأمر الذي يشير، بعد فوات الأوان، إلى أن “الدولة العميقة” أرادت إغراء “أكثر الناس حماسة” لاقتحام الموقع كذريعة لما يتبع.
لربما كان الهدف من تسهيل هذا السيناريو، والاستغلال البارع لسيكولوجيا الحشد، هو وضع الأساس لحملة شاملة ضد حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”K على أساس أنه “ثبت” الآن أنها جماعة “إرهابية محلية”. وهذا ما يفسر الدافع وراء عزل ترامب قبل أقل من أسبوعين من اعترافه بنفسه، قبل أيام قليلة، بأنه سيترك منصبه بعد ضمان “انتقال السلطة”. لو لم يستسلم، لكان من المحتمل أن يظل “ضحية” بالنسبة لمعظم أعضاء حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، لكنه الآن مجرد رهينة في القصر ينتظر إعدامه السياسي الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة باعتباره البداية للانتقام من “الدولة العميقة” التي يقودها الديمقراطيون ضد مؤيديه باسم “الدفاع ضد الإرهاب الداخلي”.. تلك هي “الخطة الرئيسية” الحقيقية، وقد نجحت.
لقد ابتلع “المستنقع” ترامب لأنه يفتقر إلى القوة لتصريفه. وكان هذا بسبب سوء تقديره السياسي الفادح للتحول من “دخيل” إلى “داخلي” في محاولة محكوم عليها بالفشل لتغيير النظام من الداخل.. لقد استسلم بشكل مثير للشفقة بعد نجاح “الخطة الرئيسية” لـ “الدولة العميقة”، ولا يمكن للتاريخ، بعد الآن، حتى أن يسجله كضحية.