بين “بسطات” بيع الأثاث ومزادات السيارات.. 750 مليون ليرة عرّت انفصال الدخل عن الواقع
“البعث الأسبوعية” ــ ريم ربيع
يبدو أن الفجوة المتزايدة خلال السنوات السابقة بين طبقات المجتمع اقتصادياً باتت اليوم أكبر من أن تردم أو يتم التغاضي عنها، فالفارق الطبقي لم يعد يقتصر على مكان السكن ونوع السيارة وعدد الممتلكات، بل تجاوز ذلك إلى الطعام والشراب، وحتى نوع رغيف الخبز..!.
ففي الوقت الذي يتنازل به كثر عن أصناف الطعام واحداً تلو الآخر، ويختصرون عدد وجباتهم إلى وجبة واحدة في اليوم، نرى فئةً أخرى – ليست بالقليلة – تملك أسلوب حياة لا يتناسب ولا ينسجم مع بلاد محاصرة من كل اتجاه، فمظاهر البذخ والترف أصبحت تشكل استفزازاً لفئة كبير من الناس، واللافت أنها لم تعد تقتصر – كما قبل – على أحياء ومناطق معينة، بل انتشرت في كل مكان، حتى أن الأحياء “الشعبية” فقدت الكثير من شعبيتها بعد تطفل مد عمراني خلال الحرب أغلبه بشكل قصور و”فيلات” لا تمت لتلك الأحياء بأية صلة!
توزيع الثروات
البعض يشير إلى كل تلك الفئة صاحبة الثروات المستجدة بأنهم أغنياء الحرب الذين استفادوا منها بما يخدم مصالحهم، والبعض يشير إليهم بأنهم عائلات المغتربين الذين يعتمدون في مصروفهم على الحوالات المرسلة إليهم، وهناك من يرى أنه في حين انهارت بعض الأعمال ازدهرت أخرى، ومن عرف استغلالها أفلح، وهناك الكثير من المبررات الأخرى لأصحاب الثراء الفاحش الذي نراه. ولكن، ومهما تنوعت هذه الأسباب، فهي في النهاية ليست كافية لتوصيف الخلل، إذ يبقى العامل الحاسم هو كيفية توزيع الثروات والمستفيدين من معدلات النمو، وكان خبراء اقتصاديون قد أشاروا مراراً إلى الخلل في الفئات المستفيدة من معدلات النمو العالية قبل الحرب، ففي 2010 وصل معدل النمو إلى 5.9% إلا أنه لم يستفد منه سوى 22% من السكان!
سياسات خاطئة
في الرقم المذكور إشارة إلى أن الخلل ليس بالكامل نتاج الحرب ومنعكساتها، بل هو أقدم من ذلك، ويعود إلى سياسات خاطئة قد تكون ركزت، في إحدى النواحي، على الإنتاج، متجاهلة كيفية الاستفادة منه بالشكل الأمثل. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى الدعم الحكومي للمواد الأساسية والجدل المرافق له في كل الأوقات، إذ لا يخفى على أحد استغلاله بشتى الطرق لزيادة الثروات، وحرمان من هم بحاجته منه؛ ولربما يعكس هذا التلكؤ – أو ربما العجز بضبط وصول الدعم لمستحقيه – صورة واضحة عن الإجراءات المتخبطة التي لا تسمن ولا تغني من جوع..
تقليب المواجع..
لا يحتاج الفارق الطبقي المتفاقم حديثاً إلى الكثير من البحث لاكتشافه، فهو واضح في كل مكان، وفي كل حيّ، والجميع على دراية به، وتعايش معه؛ إلا أن مزاد السيارات الذي أقيم في الأسبوع الأخير من العام الماضي كان كفيلاً بإثارة غضب وجدل جديد، بعد الإعلان عن شراء سيارات بمئات الملايين، حيث استنكر البعض ما أُعلن عنه بأن أسعار هذه السيارات ستدعم خزينة الدولة، وتسترجع الأموال من جيوب أصحابها! معتبرين أنه كان من الأجدى أن يُسأل أولئك: “من أين لكم هذ؟”،ا قبل إيجاد أساليب أخرى لاسترجاع أموالهم!! ةحتى توقيت المزاد أثار شجون فئة كبيرة من المواطنين، فبينما هناك من يبيع أثاث بيته، قطعة تلو الأخرى، ليتمكن من شراء كفاف يومه، هناك على الضفة الأخرى من يدفع ما يقارب 750 مليون ليرة ثمن سيارة حديثة.
تشوهات اقتصادية
بين مؤيد ومعارض لأهدافه وتوقيت إعلانه، يؤكد الخبير الاقتصادي د. ماهر سنجر أنه المزاد عكس حقيقة وجود جملة من التشوهات الاقتصادية في توزع الدخل والثروات، نتج بعضها عن حالة الحصار الاقتصادي المفروض على سورية، فمن يتابع التقرير الوطني عن الأهداف الإنمائية للألفية، والذي صدر في العام 2010، سيتمكن من الحصول على توصيف عن حالة ضعف وعدم عدالة توزّع الدخل، إضافةً إلى التفاوت بين توزّع الثروات والدخول بين السوريين، حيث أن هذه الحالة تعمقت نتيجة للإجراءات والحصار الاقتصادي والظروف التي مرت بها البلد.
غايات
يعتبر سنجر أن اختلاف المزاد الأخير عن المزادات التي سبقته، من ناحية نوعية وفخامة وحداثة السيارات المعروضة، جعل منه نقطة فارقة لفتت انتباه الكثير، وحملت الجدل لكون السيارات المعروضة بمعظمها من السيارات ذات سنة الصنع الحديثة نسبياً، ومن الماركات التجارية المهمة في عالم السيارات، مضيفاً أنه عادةً ما تنظم هكذا مزادات للتخلص من أصول قديمة، أو من مصادرات لا يمكن مناقلتها، أو التنازل عنها، بين مؤسسات القطاع العام، أو لأصول لا تتناسب وطبيعة عمل مؤسسات القطاع العام؛ فالغاية الاقتصادية الأساسية لمثل هذه المزادات هي رفد خزينة الدولة بالإيرادات، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه، أيضاً، من توقيت تنظيم هذا المزاد، ومن حداثة وفخامة السيارات موضوع المزاد؛ وأيضاً لمثل هذه المزادات غايات أخرى غير مباشرة، قريبة وبعيدة المدى، كالضغط لتخفيض ارتفاع أسعار السيارات في الأسواق، وتحريك الأسواق الراكدة، وغيرها من الغايات غير المباشرة كتوفير فرص العمل في حالة بيع الآليات الثقيلة وباصات النقل، معتبراً أن المزاد الأخير ساهم برفد الخزينة بإيرادات جيدة، لكن الحكم على بعض غاياته غير المباشرة، والبعيدة نسبياً، غير ممكن حالياً، كعدد فرص العمل التي ستتوفر نتيجة له.
غير وارد
ومع ذلك، استبعد سنجر أن تسهم المزادات بتخميد ارتفاع أسعار السيارات نتيجة حالة النقص الحاصلة في السوق السورية، حيث تزامن المزاد الأخير مع حالة من ارتفاع أسعار السيارات المستعملة في السوق السورية، وأسعار قطع الغيار، وندرة بعض أنواع القطع، وخاصة في ظل مسارعة بعض الدول للتشدد بتطبيق بنود “قانون قيصر”، ما أثر على موضوع استيراد قطع الغيار، مشيراً إلى أنه بعد قرار منع استيراد السيارات حفاظاً على احتياطيات القطع الأجنبي، والجدل الأخير حول مدى تأثير صناعة تجميع السيارات محلياً على تقلبات أسعار الصرف، زادت درجة تعطش السوق السورية للسيارات الحديثة، فالسوريون يعتمدون على سيارات اهتلكت نسبياً، وأضحت مكلفة من حيث الصيانة، ومرهقة من ناحية مسيرة البحث عن قطع الغيار.