تشيسترتون وجورج برنارد شو: علاقة أدبية متناقضة
ترجمة وإعداد: علاء العطار
توفي جورج برنارد شو في العام 1950، بعد حياة ناهزت الـ 94 عاماً. وقد ظل لعدة عقود الكاتب الأكثر تأثيراً في العالم، وفاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925، وأصبح فاحش الثراء بعد سنوات فقر مدقع عاشها في لندن. في وقت من الأوقات، كان شو حداثوياً ومبشراً علمانياً نفعياً، وكانت أسلحته في المسرح هي الفكاهة والهجاء والسخرية. وقد تبدو آراء شو متطرفة ومتناقضة في غالب الأحيان، لكنها آراء تخمرت على يد عبقري ليصنع منها فكاهة أبرزها معاصره الفتي جيلبرت كيث تشيسترتون (1874 – 1936) حين قال: “وحده الضحك يمكِّنك من دحر الشر دون ترك أحقاد”.
كان تشيسترتون صديق شو، ولكنه كان أيضًا غريماً لأفكاره، إذ كانا يتجادلان في أحيان كثيرة في المسارح العامة، فيدافع تشيسترتون ببلاغة استثنائية عن منظور القانون الطبيعي التقليدي للإنسان والتاريخ الإنساني، على عكس حداثية شو العدائية متعددة الأوجه، ومساواته بين الجنسين، ومآخذه على نيتشه، واشتراكيته، وغذاؤه النباتي، واتباعه مذهب “النشؤوية الخلاقة” وعلم تحسين النسل. كما كتب تشيسترتون كتاباً قصيراً رائعاً عن شو، نُشر في بداية مسيرة الأخير المهنية (1909)، وأضاف إليه في عام 1935 فصلاً أخيراً يتحدث عن 25 عاماً من حياة شو ومؤلفاته، أي في العام الذي سبق وفاة تشيسترتون. إن حياة شو الطويلة، وإنتاجه الأدبي الضخم، وتأثيره الواسع، دفع العديد من الباحثين ومترجمي السير إلى كتابة مجلدات مرجعية كثيرة، من بينهم هيسكيث بيرسون (1942)، وجون إرفين (1956)، والباحث المسرحي الأنغلو أمريكي البارز إريك بنتلي (1947)، ومايكل هولرويد، الذي كتب سيرة ذاتية متعددة الأجزاء (1997). ومع ذلك، زعم بنتلي وإرفين أن عمل تشيسترتون القصير عن شو كان الأفضل، إذ وصفه إرفين بأنه “أفضل كتاب كُتب عن شو، وربما أفضل ما سيكتب عنه أبداً”.
كان كل من شو وتشيسترتون مفكرين حدسيين يتمتعان بقدرة مذهلة على كتابة التعابير والصياغات الأدبية الدقيقة النابضة بالحياة، وعلى تقديم رؤىً ذكية وعميقة. كما تشاركا في صفة شخصية نادرة أيضاً، وهي صراحة رحبة الصدر مكنتهما من التعامل مع خصومهما بصدق وسخاء ساحر استدعى في أحيان كثيرة الإعجاب، بل المودة أيضاً. قال تشيسترتون، عام 1935: ” أشهد أنني لم أقرأ يوماً رداً لبرنارد شو إلا وترك في نفسي أثراً جعلني في مزاج جيد أو حالة نفسية أفضل”. ومع ذلك، لم تكن الخلافات بين تشيسترتون وشو مجرد عروض أدبية لمجتمع يحظى كل منهما بإعجابه، إذ انتقد الأديب الشاب آراء شو وتأثيره في الجمهور بعمق وقوة. كان كلاهما مثقفين وأخلاقيين شهيرين، وكانا يؤمنان بأن أوتاد خلافاتهما حقيقية وعالية، فهي مسألة رؤية عالمية وتقييمات أخلاقية صحيحة وخاطئة.
لكن لكي نرى شو من منظار تشيسترتون، من المهم أن ندرك ما أعجبه في شخصيته ومؤلفاته. ففي الفترة التي نضج فيها تشيسترتون (1880 – 1914)، قال: “نادى العلم باللاكينونة، وأجلَّ الفن الاضمحلال”. تلت ألوان شتى من العدمية اﻟﺒﺮوﻣﻴﺜﻴﻴﺔ الرومانسية الثورية التي تحلت بها الثورة الفرنسية، وما تبعها من ثورات 1830، و1848 – 1849، و1871، حيث كان داروين ونيتشه ربما أطول المسامير الحديدية التي دُقت في نعش المثالية الإنسانية.
كتب أوسكار وايلد (1854 – 1900)، وهو إيرلندي بارع من دبلن مثل شو، ولكنه يختلف عنه من حيث الطابع والمضمون، إن العلوم الطبيعية: “[حررتنا] من عبء المسؤولية الأخلاقية المفروضة على الذات والمقيدة لها من خلال الكشف عن الآلية المطلقة لكل فعل”. صدمت اللاأخلاقية الجمالية الناتجة عن وايلد وسخرت من “جدية” بريطانيا الفيكتورية المتأخرة في النثر والمسرحي الكوميدي، بما في ذلك الفكاهة الساخرة الواردة في مسرحية وايلد “أهمية أن أكون جاداً” (1895). نوه شو وتشيستيرتون إلى أن كتاب وايلد الساخر يخفي في الواقع ذلك الاضمحلال العميق.
كان مشهوداً لكل من شو وتشيستيرتون بالفكاهة. وفي الواقع شارك شو كثيراً في تسخيف معتقدات وايلد، وأصبح من المدافعين عن حقوق المرأة ونيتشه وإبسينيت وواغنيريت؛ لكن في نظر تشيسترتون، كانت أحد أعظم إنجازات شو كراهيته العميقة والدائمة للجمالية – حتى إن شو أصر على أن المبشر البروتستانتي جون بنيان كان كاتباً أعظم من شكسبير، وأدلى في كثير من الأحيان بتصريحات متعصبة بصورة لا تقبل التفسير، مثل: “هناك روح تختبئ في كل عقيدة “، و”الضمير هو أقوى الغرائز، ومحبة الله أقوى من كل الأهواء”. وتعد مسرحية شو “القديس يوحنا” (1924) إحدى أكثر الصور الدرامية حكمة وذكاء وأكثرها تعاطفاً مع المعتقد الديني المسيحي في العالم خلال المائة عام الماضية.
وعلى الرغم من أن شو كان مهرطقًا دينياً، أكد تشيسترتون أنه كان أخلاقياً بيوريتانياً حقيقياً وإن كان غريب الأطوار. كان نقد شو للداروينية عميقاً، لا سيما في المقدمة الطويلة لمسرحيته “العودة إلى ميثوسيلا” (1921)، وقد دعا الناقد الأدبي آر سي تشرشل هذه المقدمة بأنها “أذكى ملخص للجدل الدارويني على الإطلاق”. وفي الحاشية التي كتبها عن المسرحية، عام 1944، بينما كان شو لا يزال يصر على ضرورة التخلي عن العقيدة البروتستانتية (وجميع المذاهب اليهودية والمسيحية الأخرى) في شبابه، في كتابه “الصعود الأنغلو – إيرلندي في دبلن”، أكد أن استبعاد داروين للعقل وللغاية من الطبيعة كان خاطئاً ومدمراً: “ما لم نتمكن من رد العقل والإرادة والغاية كحقائق في نوع من “التطور الإبداعي” اللا دارويني، فإننا نقع في حفرة تشاؤم مثبطة لا قرار لها”.
أثارت مقاومة شو للحتمية، وإصراره على الواقع اللا مختزل للوعي والإرادة البشريين في الطبيعة والتاريخ، احترام تشيسترتون العميق وإعجابه. ففي فصله الختامي، عام 1935، والذي كتب في آخر عام من حياته، قال تشيسترتون عن إنجازات شو في الدراما على مدار الأربعين عاماً السابقة: “حسّن الحوارات الفلسفية بجعلها أكثر شعبية. لكنه قام أيضاً بتحسين وسائل التسلية الشعبية عبر جعلها فلسفية أكثر”. وأضاف أن شو كان “من أكثر الرجال وداً وكرماً في العالم”.
ومع ذلك، تلاشى إعجاب تشيسترتون من خلال إحساسه بأن شو يعاني من عيوب كبيرة وأن تأثيره كان غامضاً، ومؤذياً في بعض الحالات. وُلد شو قبل تشيسترتون بـ 18 عاماً، وعاش بعده بـ 16 عاماً أخرى، وشهد في حياته الحربين العالميتين، والدمار غير المسبوق، ونقض تقدميته وكوزموبوليتيته المبكرين، وقادته اشتراكيته الحذرة المبكرة إلى أن يصبح مسافراً شيوعياً مؤثراً. وقال شو المليء بالحماسة وبالحيوية لكاتب سيرته الذاتية، هيسكيث بيرسون، إنه كان يتمنى عندما ينام في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ألا يستيقظ مرة أخرى.
جادل تشيسترتون منذ البداية بأن شو كان لا منتمياً بثلاث طرق أعطته منظوراً ويصيرة فريدين، لكنها حالت أيضاً دون فهمه لما اعتقد تشيسترتون أنه ورع أساسي يعد من سمات الحضارة الغربية والمجتمعات الغربية، إذ كان شو بروتستانتياً أنغلو إيرلندياً احتقر بلده، وهجره بشكل دائم إلى لندن، وكان من النواحي العاطفية والفكرية والسياسية من المؤمنين الأخلاقيين البيوريتانيين الذين لم يعد بوسعهم الإيمان بالإله البيوريتاني؛ وكان مستقبلياً نيتشوياً اشتراكياً جعله اشمئزازه من الماضي البشري وتقاليده لا منتمياً لأي مجتمع تاريخي معين.
كانت دراسة تشيسترتون المقتضبة في عام 1909، والتكملة القصيرة لها في عام 1935، ملائمة بعمق لتقييم عظمة شو وجنونه. لقد رأى أن شو لم يكن ديمقراطياً بحق، وأن حبه للعمل للمصلحة العامة المثير للإعجاب كان يخبئ في ثناياه شيئاً بارداً وتجريدياً ونظرياً، وحتى أفلاطونياً من حيث اعتبار أفلاطون سلطوياً نخبوياً، في حين كان تشيسترتون ديموقراطياً، وكان مولعاً بـ “الإنسان العادي”، ويفترض أن البشر توصلوا عبر الزمن إلى أعراف وتقاليد ومشاعر معينة تحمل معها عادة حقيقة مهمة.
تمكن عظمة شو في تدمير الأوهام والأفكار ذات الشعارات الأنانية، ما أسماه كانط “الشر الراديكالي” – أي استخدام لغة الأخلاق كستار للمصلحة الذاتية أو حب الذات. وكان شو لا منتمياً لإنكلترا الفيكتورية، ورأى كيف اعتادت بريطانيا العظمى ما بعد المسيحية استخدام هذا الستار، وسخر منها بمفعول مرح وصحي. ادعى برزون أن شو كان قريباً للتقليد الدرامي الحقيقي لأريستوفانيس وموليير، وقال شو نفسه: “إن هدفي ككاتب كلاسيكي للكوميديا هو تأديب الأخلاق بالسخرية”. كان فخوراً بإعادة تعريف الدراما الإنكليزية على أنها “حوارات بلاغية طويلة على طريقة موليير”. وأطلق عليه برزون لقب “فولتير القرن العشرين”.
لكن معيار شو الإيجابي لقياس الحمق والرذيلة، والسخرية منهما، كان غامضاً وانتقائياً ومتقلباً بشكل قاتل – كما أشار تشيسترتون بأسى – ويمكن له أن يستنكر ما أسماه “المزاج المعادي للميتافيزيقا في حضارة القرن التاسع عشر”، وينتقد بالتالي الآثار اللاإنسانية ودون الإنسانية للداروينية، ويمكنه أن يستدعي بصدق مفهوم اللاهوت الجوهري في كل البشر.
كان تشيسترتون محقاً في اعتقاده بأن محاولة توليف نيتشه والاشتراكية – والشيوعية في نهاية المطاف – كانت وهماً مدمراً. وتبقى ازدواجية تشيسترتون حول شو كإنسان وككاتب مرشد حكيم لأكثر مؤلفي الدراما الإنكليزية تأثيراً في القرن العشرين.