تقول القصيدة لشاعرها: دع كلّ شيء واتبعني!!
“البعث الأسبوعية” ــ أوس أحمد أسعد
كذلك تهمس الحياة بقولٍ مشابه في أذن كائنها بأن يتبع نداءات الروح وإشاراتها الباذخة. الشعر كما التجربة الجماليّة الروحيّة والوجوديّة، ليس ترفاً نمارسه حين تخمةٍ، أو وقتَ الفراغ، كأن نستيقظ صباحاً ونقرّر أن نكون شعراء مع سبق التصّميم؛ الشعر كتوصيف، لا كتعريف، كونه يضيق بتعريفه، مصير وغاية ومشروع حياة وحساسيّة خاصة وموهبة فطريّة تتجلّى على شكل استعداد نفسي عالٍ لتلقّي نبض الأشياء والتجاوب مع فيزيائها وموسيقاها؛ الشعر سلوك وثقافة أدبيّة جماليّة عالية، وليس نصّاً إنشائيّاً افتراضيّاً فيسبوكيّاً هجينا نشكّله من سقط المتاع الذي حرّك بي مثل هذا الشعور الذي قد يبدو دفاعاً عن جوهر الشّعر؛ هو قصّة كنتُ قد قرأتُها حديثاً في مجلّة المعرفة السّوريّة، للكاتب المعروف هيرمان هسّه، بعنوان “الشّاعر” ترجمة رهف زينو؛ قصّة شاب يلاحق ما تمليه عليه روحه، فيتبع طيف رجل طاعنٍ في السنّ، ما هو إلّا تهيّؤات رسمتها أحلامه ولاوعيه الباطني. هكذا يترك الشّاب كلّ شيء ويتبع خطا الرّجل الطّيف، ساكن الكوخ الجبلي المشبع بالموسيقا والصّمت والهدوء. فيبدأ بتعلّم هذا الفن الجديد. فنّ الصّمت والإصغاء حتى يتقنه. هكذا تُشحذ روحه بطاقة أخرى لفهم الحياة والتّعامل معها بطريقة مختلفة، وحين يفكّر إن كان بإمكانه العودة إلى طريقة حياته السّابقة، قبل رحلة الحلم هذه، يكتشف أنّه لا يستطيع، بل لا يرغب بذلك، فيقع ثانية نهبَ صراعٍ يظلّ يتقاذف روحه، بين ما كان عليه من حياةٍ أفقيّة رتيبة تميل إليها النفس البشرية، وهي حالة الكسل، وبين ما تهفو إليه روحه التّوّاقة للانفلات من حالة اللامبالاة، وتعميق تجربته الحياتيّة عبر الحفر العمودي في الطبقات الباطنيّة لهذا الوجود الملغز. وبعد صراع نفسيٍّ مرير يصمّم في لحظةٍ خاطفة على قتل ذاك الشّيخ الطّاعن في السنّ، أي قتل فكرة تحوّله الجديد، بعد أن يرمي عليه أسباب كل ما خسره من عمر وهو يتبع خطاه كالمسحور، لكنّه لا يستطيع تنفيذ فكرته، إذ يفاجئه الرجل الحكيم بأنّه يعلم بمخطّطه المبيّتْ، ويقرأ ما يجول في ذهنه فيخجل من تفكيره. وما الشّيخ الحكيم سوى الصدى العميق لتجربته الرّوحيّة ومكابداتها. وها هو الآن يجد بنفسه الامتلاء الكامل فيقرّر العودة إلى بيئته البسيطة التي انطلق منها، ليجد أهله وعروسه قد ماتوا جميعاً. هذا القتل الرّمزي، هو قتل لكلّ عودة إلى الحياة السّطحيّة الرّوتينيّة السّابقة. وهذا ما قد يفعله أيّ منا حين يقرّر تعميق تجربته عبر الخروج من شرنقة البيئة التقليديّة ونمطيّتها. تلك البيئة التي تحيك حولنا دون أن ننتبه، نسيجاً فولاذيّاً من الخيوط الحريريّة المتينة الشّفافة، التي ستمنعنا من الطيران والتّحليق فيما لو فكّرنا بذلك. وبنفس الوقت تبدو لناظرها العجول حلّة قشيبة بغاية الجمال.
تقول القصّة: (استيقظَ ذات صباح ليجد نفسه وحيداً، بحث في كلّ مكان، منادياً “المعلّم” إلّا أنّ الأخير كان قد اختفى فجأةً. أحسّ أنّ الخريف قد أقبل، وهبتْ رياح عاصفة على الكوخ العتيق وهزّته هزّاً عنيفاً، وظهرتْ أسراب من الطّيور المهاجرة فوق قمّة الجبل الشّاهق، مع أنّ موسم هجرتها لم يكن قد بدأ بعد!.
أخذ هان فوك آلته الموسيقيّة وهبط متّجهاً إلى بلدته حينما وجد نفسه بين أهله، تقدّم النّاس لتحيّته كما لو أنّهم يحيّون شيخاً محترماً.. ولمّا وصل إلى بيته علم أنّ أباه وعروسه وجميع أقاربه قد ماتوا. وأنّ أناساً آخرين يقيمون مكانهم. في المساء كان الناس يحتفلون بمهرجان المصابيح على ضفاف النهر. وقف الشاعر هان فوك جانب الشّاطئ المعتم، وأسند ظهره إلى جذع شجرة عتيقة، ولمّا عزف على العود الصّغير، تنهّدت النّسوة وأخذن يتأمّلنَ جمال اللّيل بدهشة، بدأ الشّبّان ينادون عازف العود دون أن يكون بمقدورهم معرفة مكانه، وقد ذُهلوا بالموسيقا لأنّ أحداً منهم لم يستمع إلى مثل هذه الأنغام البتّة. أمّا هان فوك فلقد تلقّى كلّ ذلك ببشاشةٍ، ورنا ببصره إلى النّهر حيث تطفو آلاف الصّور المنعكسة للمصابيح، ولأنّه لم يكن بمقدوره التّمييز بين الصّورة المنعكسة والحقيقة والواقع، لم يجد أيّ فارق بين هذا المهرجان، وذاك الذي حضره لمّا كان شابّاً، وأصغى فيه إلى كلمات “المعلّم الغريب”).
وفي رواية شفّافةٍ أخرى للكاتب هرمان هسّه، معنونة بـ “أحلام الناي”، نجد نفس المنحى الشّاعري الرومانسي الصّوفي يتبدّى، لكن بشكلٍ جماليٍّ آخر، حيث تدفع البيئة هذه المرّة، ممثّلةً بالأب، بكائنها الشّاب / الابن، نحو المغامرة وإنضاج تجربته في الحياة، عكس ما ورد في قصّته المذكورة آنفاً، التي كان فيها الأب/ ممثلاً للبيئة التقليديّة، هو الذي، يريد ابنه إلى جانبه، يستنسخ حياته الرّوتينيّة المألوفة ذاتها من زواج واستقرار وما شابه ذلك. يقول الكاتب في المقدّمة: أبي قال لي وهو يناولني ناياً صغيراً من العاج: “إليكَ هذا، خذه ولا تنسَ والدكَ العجوز عندما تسرّي عن النّاس بعزفكَ في بلاد غريبة، فقد حان الوقت لكي تشاهد العالم وتكتسب المعرفة، فأنا طلبتُ صنع هذا الناي لكَ، لأنّك لا تحبّ عملاً سواه، ولا يطيب لكَ إلّا أن تغنّي دائماً، ولكن تأكّد دائماً أنّك تختار الأغاني المشرقة المرحة، وإلّا فستكون الهبة التي أودعها الله فيك مدعاة للأسف. كان أبي العزيز لا يفهم في الموسيقا إلّا قليلاً، وكان من رجال العلم يعتقد أنّ كل ما ينبغي أن أفعله هو أن أنفخ في الناي الصّغير اللّطيف، ولا يزيد الأمر على ذلك. ولم أكن أريد أن أبدّد وهمه، ولهذا شكرته ووضعتُ الناي في جيبي، وشرعتُ في الرّحيل.. أنا ذاهب إلى العالم، كما أرسلني أبي، فهو يعتقد أنّ من واجبي تقديم حفلات على النّاي. على كلّ إنسان أن يكون قادراً على فعل شيء، أيّاً كان. كلّ ما أستطيعه هو أن أنشد الأغاني. للصباح والمساء، ولكلّ الأشجار والحيوانات، والأزهار. الآن مثلاً، أستطيع أن أغنّي أغنية جميلة عن فتاة صغيرة خرجتْ من الغابات وتحمل لرجال الحصاد غذاءهم.
هكذا التجربة الروحيّة الفريدة ومكابداتها الشّاقّة ستضع الكائن على حواف وتخوم جديدة، لن يستطيع بعدها أن يعود إلى نمط حياته السّابقة، حيث ستحدثُ له تبدّلات جوهريّة تُعليه مكانة في مرآة ذاته، وفي مرا يا الآخرين أيضاً. هناك سيقف شامخاً في المنطقة المحلوم بها بعد انكسار جليد الحياة السّابقة التي كان يألفها، حيث تذوب الذّات في الموضوع، والعكس صحيح، ويغدو الشخص صاحب التجربة أشبه بكائن رمزي يُقتدى به، وقد يتحوّل في المخيال الشّعبي مع تراكم السّنين إلى حالة مؤمثلة كما يحدث عادة بالنسبة للأبطال الأسطوريين أو المتصوّفة.