واشنطن تسعى لتحويل قرغيزستان إلى نقطة انطلاق أخرى للصراع الجيوسياسي
“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة
انطلقت الحملة الرئاسية في قرغيزستان بين المرشحين لمنصب رئيس الدولة، ومن المقرر إجراء الانتخابات في 10 كانون الثاني. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الانتخابات الرئاسية ستجري في ظل ظروف اقتصادية ووبائية شديدة الصعوبة، وعلى خلفية العديد من الأحداث التي جرت في العام 2020 – والتي كان بعضها محلياً بحتاً بطبيعته، وكان لبعضها تأثير في جميع أنحاء المنطقة، فالاشتباكات التي وقعت على طول الحدود مع طاجيكستان أدت إلى وقوع خسائر بشرية.
وللعديد من الأسباب، انتهى الحال بقرغيزستان إلى وضع مالي صعب، في العام 2020، إذ علقت الصين مشاريعها في هذا البلد، الذي تبلغ ديونه الوطنية المستحقة للصين الآن أكثر من 1.7 مليار دولار. هذا وقد أظهر الوضع مع وجود الوباء مدى خطورة الاعتماد على المساعدات الخارجية، وتحديداً من روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي واللاعبين الأجانب الآخرين.
بعد إحصاء نتائج الانتخابات البرلمانية في 4 تشرين الأول، وقع “انقلاب تشرين الأول” الثالث، وقد تعددت أسباب الانقلاب ومنها المآسي التي نجمت عن الوباء والصعوبات المالية والاقتصادية التي صاحبته.
لذلك، من غير المستغرب، أن تجذب الانتخابات الرئاسية المقبلة في قرغيزستان انتباه العديد من اللاعبين المحليين، بل وأيضاً اللاعبين الخارجيين، الأمر الذي بدا واضحاً من خلال العدد الكبير من المرشحين الذين تم الإعلان عنهم في البداية لرئاسة البلاد.
في الإحصاء النهائي، من بين أكثر من 60 مشاركاً قدموا وثائق للمشاركة في الانتخابات، والتي شملت سياسيين ورجال أعمال ومعلمين وفنانين وحتى عاطلين عن العمل، سجلت اللجنة المركزية للانتخابات 18 مرشحاً لأعلى منصب. وبالتالي، سيكون كبار رجال الأعمال والسياسيين الحاصلين على سجل حافل نوعاً ما هم المتنافسون على الرئاسة.
ومع ذلك، بحسب مراقبين، يرى كثيرون أن المتنافسين الرئيسيين هم صادر جاباروف، ونائب وزير الداخلية السابق الجنرال كورسان أسانوف، والرئيس السابق للجنة الدولة للأمن القومي الجنرال عبدل سيغيزباييف، وكلاهما يتمتع بدعم شعبي واسع، بالإضافة إلى بعض الشخصيات المهمة.
دخل صادر جابروف مضمار السياسة بعد ثورة آذار 2005، وعمل لعدة سنوات مستشاراً للرئيس كرمان بك باكييف، ثم انتخب مرتين لمنصب نائب في البرلمان. وفي العام 2012، وجهت إليه تهم بموجب عدة مواد منصوص عليها في القانون الجنائي، لتنظيمه بالتعاون مع رئيس لجنة الأمن القومي كامشيبيك تاشييف، ورئيس المجلس الأعلى لقرغيزستان، والنائب الحالي لرئيس قرغيزستان تالانت ماميتوف، مسيرة في ساحة بيشكيك المركزية لتأميم أكبر منجم ذهب في البلاد، كومتور.
في عام 2013، أدانت المحكمة العليا الثلاثة، وحكم عليهم بالسجن مدة عام، إلا إنه تم إطلاق سراحهم في قاعة المحكمة بسبب سقوط الحكم بالتقادم. ثم بعد توجيه تهمة جنائية أخرى، أجبر جاباروف على الفرار خارج البلاد، ثم عاد إلى وطنه في آذار 2017. خطط للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، لكنه اعتقل فور عبوره الحدود، وفي شهر آب للعام نفسه، أدين وحُكم عليه بالسجن مدة 11 عام.
وفي تشرين الأول من هذا العام، خلال الاضطرابات، تم إطلاق سراح جاباروف بمساعدة صديقه وشريكه كامشيبيك تاشييف، وبعد ذلك بوقت قصير، وصلت مسيرة جاباروف المهنية إلى مستويات مذهلة: من سجين إلى رئيس وزراء ورئيس قرغيزستان بالنيابة.
وفي أعقاب إعلان نتائج الاستفتاء الذي سيجري بالتزامن مع الانتخابات، إذا صوت سكان قرغيزستان لاعتماد الدستور الجديد، فسيبدأ رئيس الجمهورية الجديد وفريقه في تعزيز سلطتهم، والانتقال إلى نظام حكم رئاسي. ولهذا السبب انضم اللاعبين الأجانب، وخاصة الولايات المتحدة، بقوة إلى المنافسة على المرشح الرئاسي.
تعرب غالبية القيرغيز عن دعمها لترشيح جاباروف – ليس فقط في الشمال، حيث نشأ وترعرع – ولكن أيضاً في جنوب البلاد المضطرب. إذ يتمتع بدعم لائق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما يُنظر إليه في المقاطعات النائية على أنه الشخص الذي يمكنه إنقاذ البلاد. خلال الأيام القليلة الماضية، حدد جاباروف بوضوح موقفه الموالي لروسيا. ومع ذلك، بالنسبة لواشنطن، التي تعمل جاهدة لفرض حكمها على مستقبل قيرغيزستان – واستعادة قاعدة “كانت” العسكرية التي فقدتها – فإن ترشيح جاباروف ليس مناسباً على الإطلاق. لذا صعدت وزارة الخارجية الأمريكية وسفارتها المحلية مؤخراً الضغوط على قرغيزستان، كما أشركت الولايات المتحدة بفاعلية، وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية التي أيدتها لسنوات عديدة في كل من قرغيزستان والمنطقة لشن الحرب ضد جاباروف.
ولتقويض الوضع في الجمهورية على طول الخط الفاصل بين الشمال والجنوب، بدأت السفارة الأمريكية في ليّ أذرع السلطات القرغيزية، ودفعها لإلقاء القبض على النائب السابق لدائرة الجمارك في قرغيرستان ريمبيك ماترايموف ومحاكمته، والذي أطلق عليه صحفيون معارضون لقب “المسؤول الفاسد الرئيسي” في قرغيزستان.
ومع ذلك، لم يخضع ماترايموف الذي لا يزال الزعيم غير الرسمي للعشائر الجنوبية في البلاد، لملاحقة رسمية في بشكيك، لأن اعتقاله سيخلق تلقائياً خلافاً محفوفاً بخطر الحرب الأهلية. أجبر جاباروف، الذي كان مسؤولاً مؤقتاً عن الجمهورية، ماترايموف على إعادة كل الأموال “المكتسبة بشكل غير قانوني” إلى خزانة الدولة.
ومع ذلك، في 9 كانون الأول، أضافت وزارة الخزانة الأمريكية ماترايموف إلى “قائمة ماغنيتسكي” كـ “شخص أجنبي مسؤول حكومي حالي أو سابق متورط في الفساد”.
وفي الوقت نفسه، شاركت واشنطن، في مواجهتها السياسية مع بيشكيك، بشبكة من المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي تمولها الولايات المتحدة – وبدأت تتحدث بلغة تحمل تهديدات مباشرة ضد جاباروف.
خلال حفل توزيع جوائز شبكة انترنيوز، أدلى السفير الأمريكي دونالد لو ببيان حول وجود “إمبراطورية إجرامية ” في قرغيزستان، واصفاً الأحداث التي تجري في الجمهورية بأنها “مشابهة لفيلم المافيا في هوليوود”. انتقدت وزارة الخارجية في قرغيزستان تصرفات السفير الأمريكي دونالد لو، والتي أصبحت دليلاً علنياً على محاولات واشنطن التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.
الآن، الولايات المتحدة، وتحت ستار محاربة الفساد والجريمة المنظمة المزعومة، تفرض “مساعدتها” على قرغيزستان خلال الانتخابات الرئاسية، بينما تبتز في نفس الوقت سلطات الجمهورية بالقول إنها مستعدة – في حال كان هناك أي رفض للتعاون – للكشف عن معلومات تهدد مجموعة واسعة من السياسيين القرغيزيين.