عدنان فتح الله بمناسبة مرور 30 عاماً على تأسيس المعهد العالي للموسيقا: الإيمان بهذا المكان هو الذي يقود إلى المكان الصحيح.. وما قدَّمناه خلال الحرب كان تيّاراً مقاوماً لكلّ تشويه
“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس
كان تأسيسه حلماً، وحين تحقق كان لا بد من وجود مؤمنين بأهمية وجوده في حياتنا؛ وبفضل المخلصين لرسالته السامية في نشر الموسيقا في مجتمعنا، تابع مسيرته متجاوزاً كل الصعاب، ليقطف ثمار تعبه في السنوات الأخيرة بوجود موسيقيين وعازفين أصبحت أهم الأكاديميات العالمية تستقطبهم وترحب بهم، وليكون اليوم المكان الأكثر أماناً لكل موهبة موسيقية حقيقية.
وبمناسبة مرور 30 عاماً على تأسيس المعهد العالي للموسيقا، في دمشق، في العام 1990، كان لـ “البعث الأسبوعية” هذا اللقاء مع المايسترو عدنان فتح الله، عميد المعهد:
في ذكرى تأسيس المعهد العالي للموسيقا.. ماذا تقول لكل من عمل ودرس وتخرج منه؟
لا بد من توجيه الشكر لكلّ من آمن بهذا المكان منذ تأسيسه وحتّى الآن، وكل الحب والوفاء، دائماً وأبداً، لروح عرّاب الموسيقا الأكاديمية في سورية، الأستاذ صلحي الوادي، ولكل العمداء الذين توالوا على المعهد، ولكل الأساتذة الذين درسوا فيه – وبعضهم لا يزال – وحققوا مستوى أكاديمياً للمعهد على مستوى المؤسسات الأكاديمية في الشرق الأوسط، وتحية لأرواح من كانوا في المعهد وفارقونا، سواءً كانوا موظفين أمثال رنا مريدن، أو أساتذة مثل د. سليمان زيدية، ود. فيكتور بابينكو الذي كان له الفضل على كل الموسيقيين الأكاديميين السوريين، والشكر أيضاً لكل الخبراء الروس الذين كانوا في المعهد في مرحلة التأسيس، والذين قدموا ما قدموه لتخريج طلاب ساهموا في تطوير وتنشيط الحركة الثقافية في سورية، وكذلك لكل الخريجين القدامى الذين ما زال عندهم الوفاء والانتماء للمكان الذي تخرجوا منه، وقد أصبحوا خارج الوطن ولا يزالون يقدمون مبادراتهم ليستفيد طلابه عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، أو عندما يأتون للوطن في زيارات من خلال إقامتهم لورشات عمل.. وللطلاب أقول بهذه المناسبة: هذا المعهد يظلُّ بألف خيرٍ عندما تؤمنون به، وتكونون خير رسل بعد التخرج لنشر الموسيقا التي تحمل فكراً ثقافياً وإبداعياً، ولها تأثيرها على المجتمع.
مر المعهد بمراحل متعددة.. أيها كان الأصعب برأيك؟
المرحلة الأصعب هي بالتأكيد مرحلة التأسيس لأنها تحملت مسؤولية تعريف الناس بأهمية وجود معهد موسيقي، وماهية الدراسة فيه، والجدوى منها؛ وهذا أمرٌ ليس بالسهل في مجتمعنا آنذاك، حيث أن الكثير من الآلات كان غير معروف لدى الناس إلّا من خلال التلفزيون، وبالتالي كان القيام بنشر ثقافة الموسيقا في المجتمع من أولويات المعهد؛ وقد عانى أساتذته الأوائل، مثل صلحي الوادي وسنتيا الوادي وحميد البصري ورعد خلف وإلهام أبو السعود وخضر جنيد، والخبراء الآخرون، ما عانوه في سبيل ذلك، إلى أن توّجت جهودهم بتأسيس الفرقة السيمفونية الوطنية، في العام 1993، والتي ساعدت على وجود منبر لإيصال الموسيقا ونشرها، ورفع ذائقة الناس الموسيقية. ولا بد من الإشارة إلى أنَّ الإمكانيات، في المرحلة الصعبة آنذاك، كانت متوفرة، حيث ضم المعهد منذ مرحلة التأسيس أميز الآلات، وأشهرها في العالم، وإلى الآن يتباهى المعهد بوجود آلة أورغن تعليمية يباهي بها كل المؤسسات الأكاديمية، إضافة إلى معدات أخرى قيّمة، ومهمة، وهي بحاجة للصيانة والتطوير الدائم.
وماذا عن مرحلة الحرب وأهم التحديات التي واجهت المعهد؟
مرحلة الحرب هي من المراحل الصعبة التي مر بها المعهد؛ ولذلك، وفي كل مناسبة، يتحتم علينا توجيه الشكر لكل الموسيقيين الذين تحملوا الكثير من المعاناة والصعوبات في سبيل الحفاظ على المستوى الأكاديمي الذي تميز به، في أصعب الظروف وأخطرها، للتأكيد على أنه ما زال يخرّج طلبةً متميزين – وأتوجه بالشكر، باسمي وباسم مجلس المعهد، للأستاذ مروان أبو جهجاه، وكيل المعهد، لما قدمه أيضاً في هذا المجال – وهذا ما نجح به المعهد، حين خرّج بعد الحرب طلبةً قُبِلوا في أهم المؤسسات الأكاديمية العالمية، على الرغم من مغادرة الخبراء الروس خلال فترة الحرب، والاعتماد كلياً على الكوادر الوطنية التي أدّت واجباتها على أكمل وجه، سواء في المعهد العالي أو في معهد صلحي الوادي، وذلك نتيجةً إيمانهم بتأثير الموسيقا كحالةٍ تربويّةٍ، وبأنّها ليست رفاهية في زمن الحرب، بل حاجةٌ لتعزيز الانتماء وإيصال رسائل عديدة، ناهيك عن أنّها حاجةٌ إنسانيَّةٌ جامعةٌ لكلّ النَّاس.. إن الإيجابي في الحرب كان الإحساس بالتّحدي والإيمان بالمعهد، وهو ما تجلّى خلال فترة الحرب، حيث كان الإصرار على العمل تحت أيّ ظرف، وعدم التوقف، لا على صعيد التدريس ولا على صعيد إقامة الحفلات الّتي لم تنقطع، والتي أثارت استغراب الكثيرين ممَّن هم خارج سورية، والذين كانوا يعتقدون أنَّ هذه الحفلات مسجَّلة لأنَّهم لم يصدقوا أنّها مباشرة، وهذا الأمر يؤكّد إصرارنا على التمسك برسالة الموسيقا المرتبطة بتاريخنا وحضارتنا التي صدَّرت للعالم الأبجديَّة وأول نوتة موسيقيَّة. ومن هنا، أستطيع القول إن ما قدَّمناه خلال الحرب كان تيّاراً مقاوماً لكلّ الأفكار والتيّارات التي أرادت تشويه تاريخنا وأجيالنا، من خلال ما قدمته الفرقة السيمفونيّة الوطنيّة والفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربيّة، والأثر الإيجابيّ الذي أحدثته.
وما هو تقييمك للمرحلة الحاليّة؟
لا بد من الاعتراف أننا، وخلال الحرب، وعندما كانت القذائف تنهمر على دمشق وما حولها، تابعنا العمليّة التدريسيّة لتبقى أبواب المعهد مفتوحةً أمام الطّلبة، وبعضهم استطاع التّواصل مع المعهد خلال تلك الفترة، وبعضهم عانى من صعوبة الحضور؛ فكانت الأولويات، حين بدأت الأوضاع تتحسن، بإعادة الأمور إلى وضعها ما قبل الحرب، من خلال التأكيد على الالتزام بالدوام ومراقبة مستوى أداء الطّلّاب، وكل ما يخص خطّتهم التّدريسيّة، وهذا ما وصلنا إليه حيث عاد المعهد إلى ألقه. ويسعدني أن أؤكد أنَّ سويَّة الطّلّاب الذين تقدّموا للمعهد بعد الحرب كانت جيّدةً جدّاً، وهذا أمر إيجابيّ يوضح أن الموسيقيَّ الجيّد، صاحب الموهبة الحقيقية، ونتيجة للنتائج التي حققها المعهد، أصبح يتوجه للدّراسة فيه واحتراف الموسيقا، والمعهد يقوم بالتقاطه وتقديم أقصى ما لديه من إمكانيات لتخريجه بسويّة عالية، وهو يخرّج عدداً جيّداً من الطّلاب كل سنة (ثلاثون طالباً كحدّ أقصى)، عددٌ كبيرٌ منهم أصبح يتابع تعليمه اليوم في أكاديميّاتٍ عالميّة، وهذا تأكيدٌ على سويّة المعهد الذي خرَّجهم، وتأكيدٌ للعاملين فيه بأنهم سائرون على الطريق الصحيح، رغم خسارة للكثير من الكوادر والخبراء الذين كانوا حاملين على عاتقهم جهداً كبيراً، خاصَّةً على صعيد الأداء العمليّ.
ما الذي يميز طلاب المعهد في سورية عن غيرهم ونسبة كبيرة منهم أصبحوا في أكاديميّاتٍ موسيقيةٍ عالمية؟
ميزتهم أنهم درسوا في معهد مؤسّسٌ على منهجيّةٍ صحيحةٍ تتبع لمدرسة عريقة في هذا المجال، وهي المدرسة الرّوسيّة التي استفدنا منها كثيراً على صعيد التكنيك وصناعة موسيقيّ ناضج، ولا ننسى كذلك الخبرات التي قدمها ويقدمها الكثيرون ممّن سافروا خارج القطر لدراسة الموسيقا، وعادوا إلى المعهد وقد طوّروا قدراتهم لتعليم الطّلاب ما اكتسبوه، خاصّةً فيما يخصّ الموسيقا العربيّة؛ فالطّالب في معهدنا هو الوحيد الذي يتعلّم التكنيك الغربيّ والشرقيّ، وهذا أمرٌ ليس سهلاً في علم الموسيقا، حيث أنّ الخطة التدريسية في المعهد تقوم على أن الطّلاب يدرسون كافّة العلوم الموسيقيّة، وبسويّاتٍ عالية، إضافةً إلى أنّ مادّة الصّولفيج في حالة تطويرٍ دائم، كما أصبح البيانو مادّةً يقدّمها الطالب في فحص القبول بغضّ النّظر عن آلته، مع الاعتراف أن امتحان القبول في المعهد امتحانٌ صارم، وهو ما يرفع السّويّة يوماً بعد يوم، وبالتالي لا يدخل إلى المعهد إلّا من يستحق؛ وقد تقدّم للمعهد في العام الدّراسي الحالي عددٌ كبيرٌ، والسّبب هو الارتياح الذي تعيشه سورية بعد فترة الحرب، إضافة إلى السّمعة الجيّدة للمعهد، والتي تكوّنت عبر تحقيقه نتائج عالية على المستوى العالمي، فالعازف السوريّ معروفٌ بسمعته الجيّدة وبجودة عمله الذي يؤديه وقدراته وثقافته.
إلامَ يحتاج المعهد اليوم للانتقال إلى مرحلةٍ أخرى؟
منحت الإجازة في المعهد، لأوّل مرّة، في العام 1995؛ ونتيجة اتفاقيّات مع جامعة دمشق، أصبح يمنح درجة الماجستير التخصّصي في التّربية الموسيقيّة، ولكن إلى الآن لا يستطيع منح درجة الماجستير الأدائي، لأنّ المعهد ليس تابعاً لمجلس التّعليم الأعلى، لذلك لدى جميع الخرّيجين حلمٌ بأن يصبح للمعهد قدرة على ذلك، وهذا ما يسعى لتحقيقه في الفترة القريبة، مع الإشارة إلى أنّ الخطّة الدّراسيّة موضوعة، والأمر مرهون بقوننة ذلك فقط.
أيُّة مكانة يحتلّها المعهد اليوم ضمن خارطة المعاهد الأُخرى؟
بشهادةٍ من خرّيجينا الذين أكملوا دراستهم في الخارج، والذين أتوا لإقامة ورشاتٍ في المعهد، فإن السويّةٌ التي يتمتع بها المعهد سويّةٌ عالية، وأستطيع أن أؤكد أن المعهد من أهمّ المدارس والأكاديميّات الموجودة في الشّرق الأوسط، وهذا ما لمسته من خلال زيارتي لعددٍ من الدّول العربيّة، كما يدرك ذلك كلُّ موسيقيّ سوري عزف مع الفرق الأجنبيّة في الخارج، حيث اختبر المكانة التي يحتلّها بين العازفين الآخرين، مع التأكيد على أنّ مشاركاتٍ عدّة سابقة وضعت المعهد بهذا التصنيف؛ ويكفي أنّ نذكر أن السّيّدة فيروز كان جلُّ اعتمادها على العازفين السوريّين لتميزهم، وكلُّ ذلك بفضل الصّرامة في موضوع القبول والمنهجيّة الموضوعة في المعهد من قبل جميع رؤساء الأقسام.
أي دور يقوم به معهد صلحي الوادي في تأهيل موسيقيين للمعهد العالي؟ وما رأيك بانتشار المعاهد الخاصة لتعليم الموسيقا؟
لمعهد صلحي الوادي الدور الكبير في تأهيل طلبةٍ للمعهد العالي، فالمرحلة التي يدرسها الطّالب فيه هي مرحلة تأسيسيّة وتحضيريّة لدخوله إلى المعهد العالي، كي يكون موسيقيّاً محترفاً، وهي مرحلةٌ مهمةٌ لا يستهان بها، ويجب أن تكون على سويّةٍ علميّةٍ عالية.. من هنا يجب تذليل كل الصّعوبات التي تواجه هذا المعهد، ورفده بكوادر تملك سويّة عالية كي يكون بالفعل قادراً على القيام بدوره.. إنّ وجود معاهد خاصّة لتعليم الموسيقا أمرٌ هامٌّ جدّاً، خاصة إذا كانت تدار من قبل موسيقيّين أكاديميّين محترفين يعرفون هدفها، وحين تكون كذلك فستساهم في تخريج طلّابٍ مؤهّلين لدخول المعهد العالي؛ ولتحقيق ذلك يجب التّأكيد على ضرورة إشراف وزارة الثّقافة عليها كي لا تُستغلّ لأهداف أُخرى، ويجب أن ترخّص ضمن معايير ومقوّمات مشدّدة.
كنتَ طالباً في المعهد.. أية فائدة كانت لذلك عندما استلمتَ إدارته؟ وإلى ماذا تحتاج إدارة المعهد برأيك؟
وجودي سابقاً كطالبٍ في المعهد ساعدني كثيراً في سدّ الثّغرات التي قد يشعر الطّالب بها، وهذا ما أسعى إليه دائماً من خلال إدارتي له للحفاظ على السّمعة الجيّدة له. إنّ إدارة المعهد تحتاج للإيمان المطلق بضرورة وجوده وبأهميّته، ولن يقدر أيٌّ شخصٍ على إدارة المعهد ما لم يكن قد عاش ودرس فيه، لأنّ الإيمان بهذا المكان هو الذي يقوده إلى المكان الصحيح، مع الإشارة إلى ضرورة إيمان مديره بإعطاء كلّ المعنيّين به من رؤساء أقسامٍ دورهم، واحترام موضوع الاختصاص وتفعيله، وهذا ما يجعل الجميع شركاءً في تطويره، مع التّأكيد على أن الجميع يعمل في المعهد انطلاقاً من إيمانهم بهذا المكان، ومحبتهم التي وفرت – ولا تزال – بيئة صحيحة لكل الموسيقيين الأكاديميين، ليخرّجهم عازفين وموسيقيين وقادة أوركسترا وباحثين.
هل تجاوز المعهد مشكلة المنهاج؟
يتم العمل على المنهاج بشكل مستمر، وقد أنجزنا أكثر من مادة، فنحن اليوم بطور طباعة مقرر الكونتروبوان مع الأستاذ عناد رزق، ومقرر التوزيع الأوركسترالي مع الأستاذ رعد خلف، مع وجود مقرر الصولفيج، ومقرر تاريخ الموسيقا العربية، ومقررات أخرى، في حين أن مقرر تاريخ الموسيقا العالمية هو في طور الانتهاء. أما على الصعيد العملي، فالإنجاز موجود، ونحن نرفع سويته، سنة بعد سنة، من خلال الأساتذة الذين لهم تجارب من ناحية موسيقا الحجرة، كما يقدم الطلاب أعمالهم للأوركسترا، وأصدر الأستاذ محمد عثمان كتابي “إيتودات”، إعداداً وتأليفاً، لآلة العود، وهما مُعتمدين للتدريس في المعهد، وكتاب “إيتود” لآلة البزق، إضافة إلى قطع موزعة لأربعة أعواد وبزق في مادة موسيقا الحجرة.
كيف يتم الاستفادة من خريجي المعهد؟
.. بالحد الأقصى، وخاصة المتميزين منهم، حيث يتم استيعابهم كأساتذة مساعدين في بداية الأمر، ومساعدي مدرسين، خاصة الذين لديهم تميز بمادة معينة، حيث يتم استقطابهم، إضافة إلى ما تستوعبه الفرقة السيمفونية وفرقة الموسيقا العربية.
هل هناك فِرَق ما زال المعهد بحاجة إليها؟
في كل سنة، لدى المعهد مشروع يسعى لتأسيسه؛ واليوم، هناك فرقة الرباعي السوري الذي أسسه الأستاذ محمد عثمان في المعهد، وهي فرقة خاصة يسعى المعهد اليوم لأن تكون تابعة له، لأنها حالة أكاديمية مميزة، ومشروع نوعي أظهر آلة العود بطريقة علمية وأكاديمية، وبشكل مختلف عما نراه في الوطن العربي، حيث أخرجت هذه الفرقة آلة العود من كونها آلة مرافقة لمطرب إلى آلة أساسية في الرباعي الوتري؛ وهناك مشروع تخت شرقي خاص بأساتذة المعهد نسعى لتأسيسه ليُقدّم التراث الصرف بشكل أكاديمي، علماً أن في المعهد كورال الحجرة، وهو الكورال الاحترافي الوحيد في سورية، إضافة إلى أوركسترا طلبة المعهد وكوراله، وفرقة الآلات التقليدية.