دراساتصحيفة البعث

ضربة في الصميم لــ”الديمقراطية” الأمريكية

سمر سامي السمارة

قد تشهد الأيام القادمة تصاعداً للعنف في جميع أنحاء الولايات المتحدة، فعلى الرغم من الإدانات الشديدة، شنّ ترامب وأنصاره -دون أن يطاله العقاب- هجوماً على المؤسّسات السياسية.

لقد خيّمت مشاهد صادمة من الفوضى وحكم الغوغاء، بعد أن اقتحم حشد من المتظاهرين مقرّ الكونغرس الأمريكي، ما أدى إلى تعليق الجلسة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ، وسارع نواب الكونغرس للاختباء في مواقع آمنة، إلا أن ما يثير الاستغراب هو احتفال ترامب وأنصاره بهذه اللحظة واعتبارها “عملاً وطنياً”!!.

كان ردّ فعل زعماء العالم بمثابة صدمة، جراء انزلاق السياسة الأمريكية إلى أعمال عنف مميتة في قلب العاصمة واشنطن، خاصة وأن من يقوم بهذه الأفعال هو الرجل الذي كان رئيساً للولايات المتحدة.

ترتبط كلماته المتهورة ارتباطاً مباشراً بالإقالة المؤقتة للإدارة الأمريكية، إذ كانت محاولة انقلابية، وظهرت من خلالها الديمقراطية الأمريكية التي يُشار إليها دائماً بـ”المدينة المشرقة على التل”، وأنها “منارة الأمل” لبقية العالم، على حقيقتها.

انطفأت الأنوار بعد أن اقتحم الآلاف من أنصار ترامب مبنى الكابيتول الشهير، وقاموا بتحطيم النوافذ. قُتل على أثر ذلك خمسة أشخاص في الاشتباك، واُعتقل العشرات من المتظاهرين في الاضطرابات التي ندّد بها الرئيس المنتخب جو بايدن، ووصفها العديد من المشرّعين بأنها “اعتداء على الديمقراطية”، كما عُلّقت جلسة الكونغرس لعدة ساعات، حيث سيطر الحرس الوطني ووكالات إنفاذ القانون الأخرى على مبنى الكابيتول، وفي وقت لاحق، استأنف المشرّعون أعمال التصديق على نتائج الانتخابات التي حسمتْ فوز بايدن في الاقتراع الرئاسي الجاري في 3 من تشرين الثاني.

بدأ حصار الكابيتول بعد فترة وجيزة من بدء نواب من مجلسي الشيوخ والنواب العملية الدستورية لفرز أصوات المجمّع الانتخابي الذي مُنح في 14 كانون الأول لـ بايدن ولترامب، وفاز بايدن بأغلبية واضحة، لكن بعض المشرّعين الجمهوريين تعهدوا بإلغاء الأصوات في الكونغرس.

في اليوم السابق للجلسة المشتركة لكلا المجلسين التشريعيين، ألقى ترامب خطاباً استفزازياً آخر حثّ فيه أتباعه على القتال بشراسة وعدم التنازل أبداً، وادّعى بتحدٍ أن المرشح الديمقراطي بايدن فاز بالاحتيال في فرز الأصوات، وأن الانتخابات كانت مزوّرة.

كان خطاب ترامب بمثابة دعوة لأنصاره لاقتحام مبنى الكابيتول لتعطيل العملية الانتخابية، إلا أنه أُجبر لاحقاً على توجيه دعوة للمتظاهرين “للعودة إلى بيوتهم”، لكنه مع ذلك أشار إليهم بـ”الوطنيين” وكرّر اتهاماته التي لا تستند إلى أدلة عن تزوير الانتخابات.

هنالك الآن دعوات من الحزبين بتجريد ترامب من سلطاته الرئاسية بموجب التعديل الخامس والعشرين للدستور الذي يسمح بإقالته من قبل وزارته أو من قبل الكونغرس، في حال اعتبر غير صالح لأداء مهامه. ولكن حتى الآن لم يُفعّل التعديل لتنحية رئيس بشكل كامل، ومن غير الواضح كيف سيتمّ تطبيقه أو المدة التي سيستغرقها الإجراء ليتمّ تنفيذه.

يبدو أن ترامب يسلّم الآن بأنه سيكون هناك انتقال سلمي للسلطة، لكن تبقى له أيام في المنصب قبل استلام بايدن منصبه كرئيس. لذا، يمكن القول إنه لا يزال هناك مجال كبير أمام ترامب لإطلاق العنان لهذا النوع من الفوضى التي حدثت مؤخراً.

قد تكون الأنوار قد انطفأت مؤقتاً، في “المدينة المشرقة على التل”، لكن يستطيع الجزم أنهم لن يخرجوا مرة أخرى، لإغراق السياسة الأمريكية في ظلام دامس.

لسبب واحد، يشعر جنود ترامب بالجرأة بسبب الأحداث غير العادية، لأن لديهم رئيساً يصرّ بوقاحة على الكذبة الكبرى حول تزوير الانتخابات، على الرغم من عدم تقديم أي دليل لدعم هذه الادعاءات.

رفضت المحاكم كل محاولة ادّعاء قدمتها حملة ترامب باعتبارها لا أساس لها، وبدا محاميا ترامب، رودي جولياني وسيدني باول، وكأنهما أضحوكة من خلال ترويجهما للمؤامرة. لكن، لا بد لنا من الإشارة إلى أن كل ما يحدث هو دليل على الانهيار الهائل في السياسة الأمريكية، والحقيقة أن الملايين من أنصار ترامب يعتقدون حقاً أنه فاز في الانتخابات بأغلبية ساحقة، وأن بايدن يتولّى منصبه من خلال انقلاب على الإرادة الديمقراطية للشعب، بمساعدة وتحريض الدولة العميقة ووسائل إعلامهم “الإخبارية الكاذبة”!.

لا بد من الوقوف عند أسئلة كثيرة تتعلق بكيفية السماح بحدوث هذا الفوضى، منها: كيف تمكّن الآلاف من أنصار ترامب من التغلّب بسهولة على حراس الأمن في مبنى الكابيتول؟، من الواضح أن قلب الإدارة الأمريكية، كان خاضعاً للرقابة وعاجزاً عن إبعاد الحشود التي دفعت الحواجز الأمنية. لماذا استغرق الحرس الوطني والأجهزة الأمنية الأخرى عدة ساعات لإبعاد الحشود عن القاعات والمكاتب الحكومية؟، بدا أن العديد من المتظاهرين غير مهتمين بالاعتقال، وتقول تقارير إعلامية إنه تمّ إلقاء القبض على 52 شخصاً، من بين آلاف المتظاهرين المحتالين الذين انتهكوا بالقوة مبنى الكابيتول، إذ قُتل أحدهم برصاص ضباط الشرطة، لكن الأرقام المتواضعة لعمليات الاحتجاز تشير إلى أن قوات الأمن  تتعاطف مع أنصار ترامب.

يمكن الجزم أنه لو كان المتظاهرون الذين قاموا باقتحام الكابيتول، هم من حركة “حياة السود مهمة” أو من الجماعات اليسارية المناهضة للحرب، لقام ضباط إنفاذ القانون بعمليات إطلاق نار جماعية تتسبّب بقتل الكثير من المتظاهرين. قد تشهد الأيام القليلة القادمة تصاعداً للعنف في جميع أنحاء الولايات المتحدة، فعلى الرغم من الإدانات الشديدة، يبدو أن ترامب وأنصاره ارتكبوا اعتداءات مروّعة على المؤسسات السياسية واستطاع الإفلات من العقاب، وأنوار الديمقراطية المزعومة لم تعد مضاءة تماماً.