فوضى الاحتجاجات.. ترامب يعري الديمقراطية الأمريكية
د. معن منيف سليمان
غرقت الولايات المتحدة الأمريكية في الفوضى، وشهدت العاصمة واشنطن حالات شغب وعنف وجرحى وقتلى كذلك، وذلك بعيد اجتماع أعضاء مجلس الشيوخ لإعلان نتيجة الانتخابات الأمريكية التي أفضت إلى فوز المرشّح الديمقراطي جو بايدن، على المرشح الجمهوري والرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، حيث دعا الأخير أنصاره للخروج في مظاهرات احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرئاسية في محاولة أخيرة منه للضغط على أعضاء مجلس الشيوخ. ولم يكتفِ أنصار ترامب بالخروج في مسيرات، بل قاموا باقتحام مبنى “الكونغرس” في سابقة لم تحدث في التاريخ الأمريكي من قبل، وهو انتهاك صارخ للدستور وقواعد الديمقراطية، يعكس نوعاً من التراجع عن الديمقراطية من قِبل قسم كبير من الأمريكيين.
بعد أن أصرّ ترامب على رفض الاعتراف بهزيمته في الانتخابات، متهماً خصومه الديمقراطيين بـ”سرقة الفوز” وبعد أن طالب نائبه مايك بينس الذي يترأس مجلس الشيوخ برفض الاعتراف بفوز بايدن، طلب من أنصاره عدم الاستسلام ورفض الاعتراف بالهزيمة، وأعلن عن مسيرة حاشدة جاءت ضمن سلسلة حملات احتجاجية مؤيّدة له انطلقت في واشنطن منذ وقت سابق.
وكانت الانتخابات الرئاسية أظهرت فوز بايدن بأغلبية 306 أصوات مقابل 232 في المجمع الانتخابي لكل ولاية على حدة، وبهامش يزيد على سبعة ملايين بطاقة اقتراع في التصويت الشعبي على مستوى البلاد، لكن ترامب ادّعى أن هناك تزويراً على نطاق واسع وأنه هو الفائز.
وهكذا لبّى أنصار الرئيس ترامب نداءه واقتحمت حشودهم الحواجز التي وضعتها الشرطة حول مبنى الكونغرس. وصعد المحتجون إلى الباحة الرئيسية للمبنى، ورفعوا أعلاماً مناصرة لـ ترامب، وردّدوا هتافات رافضة لنتائج الانتخابات.
الفوضى التي شهدتها أمريكا، تمثلت في اقتحام مبنى الكونغرس من قبل المحتجين الغاضبين، فيما حاولت الشرطة تفريقهم بإطلاق النار وقنابل الغاز المسيل للدموع عليهم، واعتقلت عدداً منهم داخل الكابيتول وخارجه.
إن ما حدث في واشنطن خرج عن المألوف في النظم الديمقراطية على مستوى العالم، وذلك لأن الدول الديمقراطية لديها قواعد سلمية لحلّ ما يحدث من صراعات، وتتمثل تلك القواعد في صندوق الانتخابات وأنه عندما يحدث اعتراض على نتيجة الانتخابات يكون بذلك مُعارضة للقواعد التي يستند إليها النظام الديمقراطي، وأيضاً ما حدث من عنف ومظاهرات كلها أشياء مُنافية للديمقراطية. فالمسألة تتجاوز مجرّد الشعارات إلى الممارسة الفعلية على الأرض، وهو ما يؤكد أن لا ديمقراطية دون ديمقراطيين يؤمنون بهذه الديمقراطية ويمارسونها في حياتهم اليومية، لذلك لا بدّ من دراسة عميقة وبحث في البعد الثقافي الذي دفع هؤلاء المحتجين إلى عدم الإقرار بالديمقراطية حتى لا تتفاقم المسألة فيما بعد.
لقد أساء ترامب لنفسه وللحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه، ولم يقتصر الأثر السلبي عليهما فقط، بل ويمتد إلى النظام الأمريكي الانتخابي والديمقراطي ككل. فما حدث من أعمال عنف وبتحريض من رئيس الدولة هو عار على رئيس البلاد الذي لجأ لأفعال غير قانونية، ولاسيما بعد المكالمة المسرّبة التي كشفت ضغطه على المسؤولين لقلب نتيجة الانتخابات لمصلحته، وبالتالي أصبحت الفوضى والشغب في الواقع نابعين من داخل المؤسسة الحاكمة، وهذا يعدّ انتهاكاً صارخاً للدستور وقواعد الديمقراطية في أمريكا.
ولعلّ أخطر ما فعله ترامب أنه عرّى “الديمقراطية الأمريكية” وفضح حقيقتها المزيفة، كونه من داخل المؤسّسات الأمريكية الرسمية، وعندما رفض الإذعان للنظام والقانون عرّى “الديمقراطية الأمريكية” كنظام، وفضح حقيقة الشعارات التي نصّب الأمريكيون أنفسهم حراساً عليها. والنتيجة أنه لا حقوق إنسان ولا نزاهة ولا مصداقية ولا شفافية ولا خطوط حمراء ولا حريات، ولا أي من القيم التي رفعوها وتدثروا بغطائها سابقاً في ادعاءات حراستها وحمايتها دولياً، فكلها كانت شعارات جوفاء حين تهدّدت مصالحهم، في النهاية سقط “النظام الديمقراطي” الأمريكي في أول أزمة داخلية تصادفه.
تقارير الخارجية الأمريكية التي تقيّم الديمقراطية وعملية الانتخابات في بلدان العالم وتحكم بمدى قربها أو بعدها عن قيم نصّبت نفسها حارساً عليها، فتكتب تقريرها حول معايير النزاهة ومصداقيتها في بلد آخر، أصبحت تنطبق على ما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية مؤخراً. وعندما يقرأ المرء التعليقات الأمريكية حول درجة ومستوى حرية التعبير في دول حديثة العهد بالديمقراطية ومصداقية هذه الحريات وشفافيتها، يتذكّر ما فعلته صحفهم وما فعلته وسائل التواصل الاجتماعي لترامب ولإدارته. لقد تمّ حظر حسابات ترامب على “فيسبوك” و”تويتر”، مع تحذير بإغلاق حساباته بالكامل، لأن ما قام به برأيهم هو تحريض على العنف والإرهاب، أمر شرّعوه لأنفسهم وحرّموه على غيرهم!.
لقد تقاتل الحزبان الجمهوري والديمقراطي على تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، لأن كل عضو فيها سيميل بكفته حزبياً لا عدلياً إن ذهبت النتائج الانتخابية إلى محكمتهم العليا. كل هذا يذكّرنا بتقارير الخارجية الأمريكية التي كانت تنتقد حق الدول في حماية نفسها من الغوغائيين ومثيري الشغب تحت عناوين حرية الرأي والتعبير وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
تصدّرت الفوضى التي أثارها أنصار ترامب في الكونغرس الصفحات الأولى للصحف في أنحاء العالم، وفي أغلبيتها، ألقت الصحافة العالمية اللوم بشكل مباشر على الرئيس المنتهية ولايته، متهمة إياه بالتشجيع على العنف مع عناوين مثل: “ترامب يشعل النار في واشنطن” و”الديمقراطية تحت الحصار” و”الانقلاب” و”التحدي الأكثر دراماتيكية للنظام الديمقراطي الأمريكي منذ الحرب الأهلية”. كلّ ذلك يشير إلى أن ما حدث في أمريكا يعدّ محاولة انقلاب عنيف على أسس الديمقراطية والدستور الأمريكي، وأن اعتداء ترامب كرئيس مؤسّسة رسمية على الديمقراطية الأمريكية أصبح ملموساً ورمزياً عندما تمكّن أنصاره، مدفوعين بغضب شديد جراء خطابه، من اقتحام مبنى مجلس الشيوخ وهم بذلك يمثلون قسماً كبيراً من الشعب الأمريكي. وهذا يعكس بشكل سافر تراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية التي كثيراً ما ادّعت حراستها وتدخلت بشكل فظ في شؤون بلدان مستقلة بذريعة الدفاع عن الديمقراطية وحمايتها.
إن أحداث اقتحام أنصار ترامب للكونغرس الأمريكي تُعدّ سابقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وستترك آثارها على مسيرتها كدولة تتشبّث بالديمقراطية، وستبقى نقطة سوداء دائمة في حياتها، لا تليق بالديمقراطية ولا بالمؤسسة الأمريكية وكل الشعارات التي كانت تنادي بها أمريكا.