“اذكريني دائماً” ضمّة من حكايات دمشقية ملونة
سرد حكائي ممتع لدمشق، بحاراتها وشوارعها، ببساتينها وحتى بزواريبها البعيدة، بأهلها غير المعروفين بشكل خاص، كما يعرفها الكاتب والصحفي عماد نداف، في كتابه “اذكريني دائماً” الصادر عن “اتحاد الكتاب العرب-2018″، وهذا السرد البصري الذي جاء وكأنه شريط سينمائي تستعاد فيها الذكريات المأهولة بالألفة، لهذه المدينة أو لما يمكن له أن يختصرها في وجدان الكاتب والقارئ معاً، وذلك من خلال اللغة السردية عالية المزاج، لغة رشيقة، تذهب في غوايتها حتى آخر قطرة في عناقيد المعنى، تمزج بخفة بين الإحساس المرهف الذي يجعله الكاتب دليله لما يسكبه على الورق من حبر، وبين الاستدعاء الحرّ لتلك الأحداث التي يختزنها في جوانياته، للمدينة التي تغيّرت عليه كثيراً بعد أن أبدلت ثوبها الأخضر بثوب اسمنتي قاسٍ، لذا كان من المهمّ والضروري بالنسبة للكاتب، توثيق تلك الذاكرة التي يعرفها جيداً في حكايات لها مطرحها النديّ في باله، وسيكون لها مطرحها النديّ والحار أيضاً في وجدان القارئ، الذي يتورّط عاطفياً مع تلك الأمكنة التي تأخذه إليها بأحداث شيّقة لا تنقطع وتيرة جذبها المباغت، دون أي تنازل عن المستوى الخلّاق في هذا النهر الجارف من الذكريات البعيدة، التي ينسج من قلبها شالاً من الألفة، يضعه على عنق كل حكاية يقصّها بقلبه أولاً، وهكذا يورّط الكاتب وجدان القارئ بوجدانه هو، وبما يختار أن يقدّمه له على هيئة قصص قصيرة مفتوحة الدلالة، بشخوص من لحم ودم، حبكات بسيطة دون تعقيد في السرد، ميل للرشاقة اللغوية المنكهة بنفحات شعرية رقيقة، حتى يكاد عطر دمشق الأشهر، يندلع من بين الصفحات ويطير، كما يطير شذا الياسمين بيوم ربيعي مشمس.
في بداية قصة “البديري وقصة أبو التوت الحلاق”، يفتتح الكاتب الحكاية بالكلام التالي: “في دمشق.. تعرف إلى واحدة من أجمل مدن الشرق، ليس لأنها قديمة كما يقولون، وليس لأن الغوطة تقع في جهتها الشرقية، ولا لأن النهر الذي يدخل إليها من جهة الربوة، يتفرع فيها لسبعة أنهار صغيرة، ولا لأن الماء ينبع في كل بيت من خلال بحرة في وسط الدار، ولا لأن الياسمين والكباد والعنب الزيني والبرتقال اليافاوي والليمون الحلو موجود في كل بيت، بل لأن فيها تفاصيل ساحرة لأشياء يومية”.
المقطع السابق يوضح بناء العلاقة بين “نداف” والمدينة التي اختبر كل مكوّناتها الجمالية، منذ طفولته مروراً بصباه وشبابه، وليس انتهاءً به وهو يخبر في بعض المقتطفات، عن رواية يشتغل عليها عنها، فليست كل المكونات الجمالية المعروفة عن المدينة كما يعرفها السياح، هي من يشكّل فقط روحها ويؤلّف ما بين مكوناتها من سماء وماء وأرض، بل إنها تلك التفاصيل البسيطة، والتي غالباً هي من الشؤون أو من الحالات الشخصية، أكثر من كونها عامة ومعروفة، لكنها مجتمعة سواء تشابهت أو تفرقت في الشكل والمضمون، شكلت وتشكل هالة سحرية عنها، ولهذا يسرد الكاتب بعضاً من تلك الذكريات الملوّنة كأحلام بعيدة، والتي تشكّل في طبيعتها المادية والروحية، مادة خصبة له، يرويها بعد أن ينقيها من الحدود الفاصلة بين الوهم والواقع، لتتجلّى كما لم تفعل من قبل، مدينة معجونة بروح ساكنيها، شريكة في صياغة حيواتهم وتفاصيلها الدقيقة، وهذا ما يميّز كتاب “اذكريني دائماً” والذي يصف الكاتب حكاياته بكونها “حكايات مخفية في شقوق جدار دمشق”، ومن تلك الحكايات البارعة: (حكاية صخرة الربوة/ حكاية “الحميماتي” العاشق/ السر الذي اكتشفناه بعد وفاة جدي/ تلك الفتاة الجميلة النصابة/ في الشام يتحدثون بلسان العصفور/ قصة ياسمينة القبو الذي هاجر أصحابه/ احذر أن ترتدي ملابس بابا نويل مثلي)، ومن الأخيرة نورد المقطع التالي: “توهج المصباح، فتقابلت وجوهنا، كأنها أرادت أن اكشفنا جميعاً، ظهرنا بملابس حمراء تشبه ملابس سانتا كلوز، كنا أربعة أو خمسة، رأيت كل واحد منهم يضع كيسه على ظهره ويحمل جرساً بيده، لم تكن الأكياس مليئة بالهدايا، كان كل كيس يحتوي هدية شبيهة بهديتي التي وضعتها لهالة قبل أن ابدأ بتنفيذ خطتي”، و”هالة” كما يصفها الكاتب: “هي فتاة تشبه الرائحة تفوح بسحر غريب، يترك أثرها بكل من يعرفها، حتى لو مرت في زحمة الحياة”.
يوالف المؤلف بمهارة بين عناصر السرد الحكائي، وبين طبيعة المقال في لغة تذهب بين هذا وذاك، فلا يذهب بعيداً في مراميها الأدبية، بحيث لا يطغى ما هو أدبي على ما هو توثيقي، كما أنه لا يترك حكاياته بشخوصها وحالاتها ومواضيعها، منغلقة على بعضها، بل إنه يذهب نحو البساطة عموماً في نقل جوانياته إلى الورق، وهكذا سيجد القارئ نفسه مرتاحاً للغة التي تحيك له مشاهد متتالية رشيقة، جميلة، بلا تكلف أو زخرفة من أي نوع، ففيها من الزخم ما يعطيها روح الحياة، وهنا تظهر براعته الصحفية في التعامل مع اللغة، فاللغة ليست تقريرية هنا، بل جاذبة للولوج إلى عوالم الكتاب، تلك الخفية منها والمعروفة، وهنا يتمّ مزج الذاكرة الشخصية بذاكرة المكان والناس، بتفاصيل تلك الذاكرة الملونة الدقيقة والرقيقة في آن.
“اذكريني دائماً” كتاب من القطع المتوسط، تنفرد سرائره على 220 صفحة، وهو كتاب يستحق القراءة والاقتناء.
تمّام علي بركات