صادرات الأسلحة الألمانية والتشريعات الأوروبية
سمر سامي السمارة
في نهاية عام 2020 تعرّضت ألمانيا -مع مشارفة عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على نهايتها- لانتقادات من روسيا والصين بسبب سياستها في سورية، حيث تمّت الإشارة إلى أن ألمانيا وعدد من الدول الغربية هي من “وضعت السوريين في مأزق” جراء “سلوكها المنافق”. وقد أعربت موسكو وبكين عن تشكيكهما في أحقية برلين بالمطالبة بمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، وهو ما تسعى إليه منذ سنوات عديدة.
في الوقت نفسه، أفادت التقارير أنه وفقاً لنتائج ممثلي برلين لدى مجلس الأمن، تتساءل الآن العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، التي أيّدت سابقاً فكرة العضوية الدائمة لألمانيا، ما إذا كان ينبغي “السماح بهذا القدر من السخرية في هذه القاعة”، كما أكد ممثل الصين أن “أداء ألمانيا أمام مجلس الأمن لم يكن على قدر توقعات العالم ولا توقعات المجلس”.
بالنسبة للبعض، قد تبدو هذه الانتقادات ذات دوافع سياسية، لكن في الحقيقة، غموض برلين حيال الأحداث الدولية المهمّة جداً، أصبح في الآونة الأخيرة، أكثر وضوحاً. ولنأخذ على سبيل المثال، موقف برلين من بيع الأسلحة وإيصالها إلى مناطق يوجد فيها نزاع مسلح، وهو الأمر الذي عارضته ألمانيا بقوة وعلانية في وقت سابق، لكن الموقف الرسمي الذي اتخذته برلين كان مخالفاً تماماً، وهو ما بررته ألمانيا لاحقاً أنه كان ناجماً عن المبادئ السياسية العامة المعروفة والاتفاقيات الدولية القائمة. فعلى وجه الخصوص-وعملاً بأحد قرارات الأمم المتحدة– تمّ فرض حظر على توريد الأسلحة والمعدات العسكرية لإيران، كم طُبّق حظر مماثل على توريد الأسلحة إلى كوريا الديمقراطية. إضافة إلى ذلك، يحظر القانون الألماني تصدير الأسلحة إلى الدول غير الأعضاء في الناتو، ولا تسمح معايير الاتحاد الأوروبي ببيع الأسلحة للدول المتورطة في صراعات عسكرية، أو غير مستقرة داخلياً.
يصف كتاب ألمانيا الأبيض، الوثيقة الأساسية التي أعدّتها وزارة الدفاع، واعتمدتها الحكومة الفيدرالية الألمانية، الجوانب الرئيسية لسياسة الدفاع في البلاد، وحالة الجيش وحلفائه والتهديدات الرئيسية التي تواجهه، وهو بمثابة المبادئ التوجيهية للسياسة الأمنية للبلاد لمدة عدة سنوات. كما تشير هذه الوثيقة إلى أنه “يجب على ألمانيا تحمّل المزيد من المسؤولية في مجال الحفاظ على السلام والأمن الدولي”.
ومع ذلك، بينما تدعو برلين علناً إلى هذه التدابير التقييدية التي يتخذها المجتمع الدولي في الحرب ضد النزاعات المسلحة، فإنها بسياستها المزدوجة، تنتهك هذه الإجراءات بشكل دائم. ومؤخراً، أثبت معهد أبحاث السلام في فرانكفورت هذه الانتهاكات رسمياً في تقريره الذي قدّم تحليلاً لصفقات الأسلحة المريبة التي قامت بها ألمانيا على مدار الثلاثين عاماً الماضية، وأظهرت بوضوح أن ألمانيا تبيع منذ عقود أسلحة لدول ومناطق يوجد فيها مدنيون ونزاعات داخلية.
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ منتصف الثمانينيات، قطعت ألمانيا شوطاً طويلاً في سوق صادرات الأسلحة، حيث قامت “بتنحية بريطانيا العظمى وحتى الصين جانباً”. وتعتبر اليوم إحدى الدول الرائدة في تصدير الأسلحة بعد الولايات المتحدة وفرنسا من حيث مبيعاتها في “الصفقات العسكرية”، وبحصة تصل إلى 6٪ من صادرات الأسلحة العالمية.
في عام 2019، باعت جمهورية ألمانيا الاتحادية أسلحة بنحو 8 مليارات يورو، مسجلة بذلك رقماً قياسياً مقارنة بالعقد الماضي. ومع ذلك، عند تقييم أرباح شركات الأسلحة الألمانية، لا ينبغي إغفال أهمية الدور الذي يلعبه “النقاء الأخلاقي” لهذه الصفقات. في العام 1971 تبنّت ألمانيا قانوناً يحظر صراحة توريد الأسلحة إلى الدول غير الأعضاء في الناتو. وفي عام 1998 تمّ تطوير ثمانية معايير، يتعيّن بموجبها على الدولة التي ترغب بشراء الأسلحة الألمانية الالتزام بها، وهنا لابد من الذكر أن هذه المعايير تتضمن التزام الدولة المستوردة للأسلحة الألمانية بالقانون الدولي وحقوق الإنسان على حدودها، وعدم تورطها في النزاعات، وعدم وجود أي مشكلات تتعلق بالأمن والاستقرار الداخلي. كان من المفترض أن تقلّل هذه المعايير بشكل كبير من خطر وقوع الأسلحة في أيدي المعتدين الدوليين والإرهابيين والأطراف المتحاربة المتورطة في نزاعات مسلحة مختلفة. إلا أن واقع الحال، يظهر أن صادرات الأسلحة الألمانية بعيدة كل البعد عن هذه الإملاءات الحذرة في التشريعات الأوروبية، وهو ما أكده التحليل الذي أجراه معهد أبحاث السلام في فرانكفورت، وأظهر أن الأسلحة الألمانية -غالباً– ما كانت تقع في أيدي قوى سياسية لا يمكن تسميتها سلمية وديمقراطية وفقاً للمفهوم الغربي. فعلى سبيل المثال، تستخدم السعودية في حربها الشعواء على اليمن منذ عام 2015 الأسلحة الألمانية، ما تسبّب في أزمة إنسانية ومقتل مدنيين، على الرغم من القيود الدولية المفروضة على بيع الأسلحة للرياض بسبب هذه الحرب!.
كما لفتت وسائل إعلام ألمانية الانتباه إلى ازدواجية معايير السلطات الألمانية، مشيرة إلى أن الحكومة الألمانية تحظر بيع الأسلحة إلى اليمن وليبيا، ثم تمضي قدماً وتبيعها بهدوء لمن يشاركون بشكل مباشر في الصراعات في هذه الدول. فعلى سبيل المثال، كشفت بيانات ألمانية أن حكومة ألمانيا وافقت على صادرات أسلحة تزيد قيمتها عن المليار يورو في عام 2020 إلى دول متورطة في النزاعات في اليمن وليبيا، وقد بلغت قيمة الصادرات إلى مصر وحدها 752 مليون يورو، كما منح البوندستاغ إذناً بتوريد أسلحة إلى قطر بقيمة 305.1 ملايين يورو وإلى الكويت بقيمة 23.4 مليوناً، وإلى الأردن بقيمة 1.7 مليون، والبحرين 1.5 مليون، والإمارات العربية المتحدة 51.3 مليوناً، وتركيا 2209 مليوناً بإجمالي 1.16 مليار يورو. والأهم من كل ذلك، فإن كل هذه الدول متورطة في الصراع اليمني والليبي، وحتى ألمانيا التي تدعو رسمياً إلى ضرورة إنهاء عمليات تسليم الأسلحة إلى البلاد بأية وسيلة تلعب دور الوسيط في الصراع الليبي.
ذكرت وسائل إعلام تركية أن ألمانيا ردّت بحدة في العام 2019 على العملية التي قامت بها تركيا عبر الحدود في سورية، معتبرة أنها عملية عسكرية تتعارض مع القانون الدولي، وقرّرت فرض حظر على مبيعات الأسلحة، ومع ذلك لم يمنعها ذلك من إضفاء الطابع الرسمي على صفقة أسلحة مع تركيا بقيمة 25.9 مليون يورو.
وبحسب الأمم المتحدة، يستمر توريد الأسلحة إلى ليبيا وسورية عبر تركيا والإمارات العربية المتحدة. ففي عام 2018، وقّع الائتلاف الحاكم في ألمانيا اتفاقية لوقف تسليم الأسلحة للأطراف المشاركة بشكل مباشر في الصراع، لكن هذا البند لم يُطبّق حتى الآن إلا على بعض الأطراف!.
اليوم، لا توجد طريقة فعّالة في الممارسة المعمول بها دولياً لتعقب حركة واستخدام الأسلحة التي يتمّ توريدها، وهو أمر تستفيد منه الدول المجردة من الأخلاق، بما في ذلك ألمانيا، لجني الفوائد المالية. لذا، فمن الضروري بشكل موضوعي إيجاد نظام دولي لتحديد بيع الأسلحة مع رقابة صارمة من قبل منظمة فوق وطنية، ووضع نظام للعقوبات لمن يقومون بانتهاك المعاهدات المعنية.