دخول التاريخ!؟
د. نهلة عيسى
بداية: هل تتفقون معي في كوننا في هذا الوطن الحزين بدأنا بمغادرة المرحلة البنفسجية للحرب، حيث كل الأشياء مرئية، ومفهومة إلى حد ما، بغض النظر عن كونها مبررة أم غير مبررة، إلى المرحلة ما فوق البنفسجية، أي التي لا ترى ولكنها تقتل! ولذلك ليس لدي أية رغبة في الكلام، أنا مثلي مثل الجميع، تستلبني الوقائع العبثية لحياتنا اليومية، كل قدراتي على التواصل الصحيح مع البشر وكل الأشياء، وتدخلني في دوامة التفكير غير المجدي، بكيف نعيش ومن أين، وإلى متى؟ لأنه على سبيل المثال، إذ يصعب الحصر، عندما يكون حتى الدفء متعذراً، وثمن كيلو الفليفلة 1800 ل. س، والبرتقال في موسمه 1000، وربطة الخبز السياحي الصغيرة 800، وكيلو الكعك 2600، وكيلو الرز 2500، والجاكيت 50000، والحذاء 20000 كحد أدنى، لن تشتري رواتبنا سوى الغضب، وليس مستلزمات العيش!؟
والمشكلة أن معظمنا، خاصة أصحاب القرار، لا يواجه الأسباب الحقيقة في ذلك، بل يحاول رميها وتحميلها لقوى وظروف لا سلطان لنا عليها، فيصبحا – الحرب والرب – سبباً فيما نحن فيه، ونغطس في بحر من العجز والغيبيات بعيداً عن تحميل المسؤوليات، وتتعدد الأسباب والقهر واحد، أن لا أحد من ولاة أمورنا المعيشية جاهز لإعلان فشله في إيجاد حلول منطقية لبؤسنا اليومي من برد وظلمة وغلاء فاجر، حتى ولو متنا جميعاً، ألسنا نتباهى بالموت وكأنه خيار وليس اضطراراً، وننظم القصائد في كوننا قبيلة من الشهداء، رغم أنه ليس هناك موت يشبه موتاً آخر، وكنه الموت يتوقف في الإجابة على سؤال: كيف كانت الحياة!؟
يا سادة!! نحن منذ عشر سنوات في ليل تحد طويل، وعملاء البشاعة يسيطرون على تفاصيل حياتنا، ورغم ذلك ما يزال خطابنا اليومي، خاصة الحكومي، يوحي وكأننا نعيش في “ظلال الزيزفون!”، وليس في ظل قصف عسكري وسياسي واقتصادي واجتماعي، أضعنا فيه البوصلة وصار سهلاً علينا اعتبار الترقيع.. تطويراً، والقص واللصق، قبضاً على الأفق، والأشجار المحترقة.. صموداً، وانكسار الواقع.. مخاضاً، والخلط ما بين القتلة والشهداء.. مساواةً، أو بالتعبير الجائر الدارج.. تسوية، فهل فهمتم الآن لماذا تحترق غاباتنا، أنها ببساطة شديدة مثلنا جميعاً تخرج من جلدها لتدخل في الصمت، حيث الصمت جرح، وحيث الكلام أشبه بـ (ما) بعد (إذا) زائد عن الحاجة!؟
يا سادة!! رواتبنا لا تشتري سوى الحسرة والغضب، ولا أحد يغضب إلا من أجل وطن يحبه ويؤمن به ويقدسه، والحب هنا ليس نقيضاً للحس بالمسؤولية، ولا نقيضاً للجدية في مواجهة قضايا الحياة، بل على العكس كلما ازداد الحب كبر الغضب، كموقف طبيعي وصحي، ممن يسرقون ليس فقط قوت يومنا، بل أيضاً الروابط التي بيننا وبين الوطن، ويحولون علاقتنا به إلى مجرد علاقة هيكلية قانونية تخلو من الحب وتحتمي “بالمثالية”، كما يحولون حبنا له إلى خطيئة وعلاقة غير شرعية، يبدو أنه – في ظل الوقائع والأحداث – ليس هناك ما يبررها!؟، وهذا لعمري كارثة وطنية أن تصبح العلاقة بالوطن جواز سفر!!
يا سادة!! ليس لدي رغبة بالكلام، لأنه لا رأي لمن لا يطاع، ولا صوت في بلادنا إلا لببغائي الصوت ومجتري الأقوال والأفعال، ولذلك فنحن حقاً وليس مجازاً خارج التاريخ، وأصحاب القرار لدينا يتسترون على ذلك، بدلاً من إلقاء القبض على الأهداف المعلنة، وصياغة الاستراتيجيات، وإعلان الحقائق حتى لو كانت مفزعة بدلاً من التلطي خلف الجدران الزائفة، للخروج بنا منتصرين من معركة الوجود البيولوجي، معركة الغذاء والكساء، من أجل أن نكون قادرين على أن ننتصر في معركة الوجود الوطني، وإلا ستبقى النصال تتكسر على النصال، وسيكون عسيراً أن نعود للدخول في التاريخ، لأن أبوابه لا تفتحها القصائد.