ماكنزي الرجل الخفي في القيادة المركزية الأمريكية
ترجمة وإعداد: علاء العطار
أثارت سلسلة التحركات العسكرية الأمريكية الاستفزازية في الشرق الأوسط خلال الشهرين الأخيرين من إدارة ترامب مخاوف من أن الحرب على إيران كانت وشيكة. لم تكن أجواء الأزمة ناتجة عن أي تهديد تشكله طهران، بل نتاج حملة اصطنعها قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال كينيث ماكنزي، خدمةً لمصالحه.
وفي محاولة لاكتساب المكانة والسلطة داخل الجيش الأمريكي، والتأثير في صنع السياسة الذي يضمن ذلك، عمل ماكنزي على جمع الأصول العسكرية، وكان تعطشه للنفوذ عاملاً ضاغطاً في الحلقة الأخيرة من التوترات الأمريكية الإيرانية. وخدمة لأجندته الشخصية، اتخذ ماكنزي سلسلة محسوبة من التحركات السياسية البيروقراطية، إلى جانب ضغط العلاقات العامة في وسائل الإعلام.
فور توليه القيادة المركزية الأمريكية في آذار عام 2019، بدأ ماكنزي حملة المناورة السياسية، وضغط من أجل إرسال حاملة طائرات هجومية وقوة قاذفات إلى الشرق الأوسط عبر طلب قوات إضافية لاحتواء تهديد إيراني مفترض. وبعد مرور شهر، قال للصحفيين إنه يعتقد أن عمليات الانتشار “لها تأثير مفيد للغاية على الاستقرار”، وأنه كان بصدد التفاوض على وجود عسكري أمريكي أكبر وأطول أمداً.
ونتيجة لهذه التحركات، نجح ماكنزي في كسب من 10.000 إلى 15.000 فرداً من القوات المسلحة، وبذلك يصل المجموع في القيادة المركزية الأمريكية إلى أكثر من 90.000. وجرى الكشف عن الزيادة السريعة في الأصول تحت إمرته في جلسة استماع لمجلس الشيوخ في آذار عام 2020.
وخلال الفترة المتبقية من عام 2020 ، نقل بعض هذه القوات إلى شرق آسيا أو إلى أوروبا، تمشياً مع أولوية البنتاغون الجديدة بشأن “منافسة القوى الكبرى”. وكان تصميم ماكنزي على مقاومة فقدان الأصول العسكرية عاملاً حاسماً في افتعال الأزمة مع إيران الأخيرة.
كافح ماكنزي للإبقاء على آلاف القوات الأمريكية في العراق، لمحاربة تنظيم “داعش” ظاهرياً، في حين أن السبب الحقيقي هو الحفاظ على وجود عسكري طويل الأمد في البلاد. لكن الوجود العسكري الأمريكي لا يحظى بشعبية كبيرة في العراق، ففي كانون الثاني عام 2020، بعد اغتيال الولايات المتحدة للجنرال الإيراني قاسم سليماني، أصدر المجلس التشريعي العراقي قراراً يطالب بانسحاب جميع القوات الأمريكية من البلاد.
في الأثناء، صعدت المقاومة العراقية من هجماتها على القوات الأمريكية، بدءاً بهجوم صاروخي كبير على قوات “التحالف” في معسكر التاجي في آذار عام 2020 أسفر عن مقتل جنديين أمريكيين. استغل ماكنزي هجوم معسكر التاجي لاستعادة بعض الأصول التي فقدها، ونجح في طلب بقاء حاملة طائرات ثانية في المنطقة. وتبعاً لما ذكرته صحيفة وول ستريت جورنال، طالب بإرسال القوات الإضافية “إشارة إلى طهران بأنها ستتحمل المسؤولية” إذا استمرت المقاومة العراقية في مهاجمة القوات الأمريكية. لكن سرعان ما تبين أن هذه الحيلة كانت فاشلة، إذ ارتفعت هجمات المقاومة العراقية على القواعد التي احتلتها القوات الأمريكية إلى 28 هجوماً بين آذار وآب من عام 2020. وهكذا أجبر ماكنزي على بدء انسحاب من القواعد في العراق وتسليمها إلى القوات العراقية، واعترف في أيلول، أثناء إعلانه التخفيض المخطط للقوات الأمريكية في العراق من 5200 إلى 3000، أن هجمات المقاومة كانت سبباً رئيسياً للانسحاب.
وبعد قرار ترامب في منتصف تشرين الثاني 2020 بخفض عدد القوات في أفغانستان والعراق إلى 2500 جندي، أوهم ماكنزي وحلفاؤه في واشنطن بوجود أزمة مع إيران عبر الترويج لفكرة أن إيران تخطط لشن هجمات على القوات الأمريكية. وذكرت صحيفة نيويورك تايمز في 16 تشرين الثاني أن المسؤولين “قلقون بشكل خاص بشأن ذكرى 3 كانون الثاني للضربة الأمريكية التي قتلت سليماني…”. ونقلت صحيفة واشنطن بوست في اليوم التالي عن “أشخاص مطلعين على الأمر” قولهم إن المخابرات الأمريكية كانت “تراقب تهديدات إيران المحتملة على القوات الأمريكية في المنطقة”!.
ثم جاءت خطوة أكثر خطورة، ففي 21 تشرين الثاني 2020، طارت قاذفتان من طراز ستراتوفورتس B-52 مباشرة من الولايات المتحدة إلى الخليج. وأعلن المتحدث باسم القيادة المركزية عن انطلاق القاذفتين في بيان لم يقدم أي تبرير محدد، وقال إن اغتيال سليماني في كانون الثاني عام 2020 عجل بنشر آخر قاذفتين بعيدتي المدى من طراز B-52 إلى الخليج، ما خلق إحساساً بأنها مرتبطة بأزمة عسكرية محتملة.
في 7 كانون الأول الماضي، عاد ماكنزي إلى الهجوم، فتحدث إلى مجموعة صغيرة من المراسلين الذين سُمح لهم بتعريفه فقط على أنه “مسؤول عسكري أمريكي كبير على دراية بالمنطقة”. كما ذكرت وكالة أسوشيتيد برس وإن بي سي نيوز أنه قال إن مخاطر أن تسيء إيران التقدير باتت “أعلى الآن”، بسبب سحب الولايات المتحدة للقوات من المنطقة، والانتقال الرئاسي الأمريكي، وجائحة كوفيد 19، والذكرى السنوية لاغتيال سليماني. وأكد أن القادة العسكريين قرروا أن حاملة الطائرات “نيميتز” يجب أن تبقى في المنطقة “لبعض الوقت في المستقبل”، وأنه قد تكون هناك حاجة أيضاً إلى استدعاء سرب طائرات مقاتلة إضافي.
وبعد ثلاثة أيام، حلق سرب آخر من طائرات B-52 من الولايات المتحدة إلى الخليج، وحلّق بشكل استفزازي بالقرب من المجال الجوي الإيراني قبل أن يعود إلى قاعدته. بعد ذلك، أعلنت البحرية الأمريكية في 21 كانون الأول أن الغواصة الصاروخية الموجهة يو إس إس جورجيا، إلى جانب طرّادات صاروخية موجهة، عبرت مضيق هرمز ودخلت الخليج. كان هذا الإعلان مستغرباً للغاية، إذ صرحت البحرية، التي اعتادت الصمت بشأن تحركات سفنها، أن الغواصة “جورجيا” بإمكانها أن تحمل ما يصل إلى 154 صاروخ كروز للهجوم الأرضي من طراز توماهوك.
وفي مقابلة مع إي بي سي نيوز في 22 كانون الأول، سُئل ماكنزي عن خطورة شن هجوم إيراني على الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، فأجاب: “أعتقد أننا لا نزال في فترة خطر شديد”، على الرغم من أنه أشار أيضاً إلى أن إيران لا تريد الحرب مع الولايات المتحدة.
انطلقت رحلة ثالثة من طائرات B-52 إلى الخليج في 30 كانون الأول، ونقلت القيادة المركزية الأمريكية هذه المرة عن ماكنزي مباشرة أنه كان ينوي “توضيح أننا جاهزون وقادرون على الرد على أي عدوان موجه ضد الأمريكيين أو مصالحنا”.
وقال “مسؤول عسكري كبير” في وقت لاحق لوكالة أسوشيتد برس إن المخابرات الأمريكية رصدت “مؤشرات على أن أسلحة متطورة تتدفق من إيران إلى العراق مؤخراً، وأن قادة المقاومة العراقية ربما التقوا بضباط فيلق القدس الإيراني”. وقيل إن هذا يشير إلى خطط لهجمات صاروخية محتملة ضد المصالح الأمريكية في العراق، ورددت شبكة “سي إن إن” مزاعم البنتاغون بأن إيران نقلت صواريخ باليستية قصيرة المدى إلى العراق، وأن المقاومة العراقية كانت تخطط “لهجمات معقدة”. لكن “مسؤولاً دفاعياً كبيراً” أصرّ على أن المسؤولين الذين نشروا مثل هذه التقارير كانوا يبالغون عمداً لتضخيم خطر شن إيران لهجوم. وأشارت رواية “سي إن إن” بقوة إلى أن قرار وزير الدفاع بالوكالة كريستوفر ميللر في 30 كانون الأول بإعادة حاملة الطائرات “نيميتز” إلى أمريكا كان بناءً على اعتقاده أن مزاعم ماكنزي وحلفائه بأن إيران ترغب بشن هجوم تهدف إلى خدمة مصالحهم الشخصية.
لم تشرح وكالة أسوشيتد برس ولا “سي إن إن” للقراء أن الصواريخ الإيرانية قصيرة المدى الإضافية كانت احتياطات ضرورية لتعزيز الردع في ضوء سلسلة الاستعراضات الأمريكية الاستفزازية للقوة التي تضمنت قاذفات B-52 والسفن الحاملة للصواريخ، كما أنها لم تذكر التصريحات الإيرانية بأن الانتقام لاغتيال سليماني لن يستهدف القوات الأمريكية بل المسؤولين عن اغتياله.
في النهاية، اضطر ميلر إلى التراجع عن قراره الإبقاء على حاملة الطائرات “نيميتز” في الشرق الأوسط – وهو فوز مهم لماكنزي. وعلى الرغم من أن الذكرى السنوية لاغتيال الولايات المتحدة لسليماني جاءت دون وقوع حوادث، انطلقت رحلة أخرى لطائرات B-52 في 7 كانون الثاني – وهو عرض جريء لانتصار ماكنزي البيروقراطي على ميلر.
يشير الصراع السياسي البيروقراطي على السلطة الذي اندلع في أسابيع إدارة ترامب الأخيرة إلى أن قوة ماكنزي ومصالحه من المرجح أن يكون لها تأثير كبير على سياسة إدارة بايدن تجاه إيران.
لا يزال ماكنزي يقاوم نقل الأصول العسكرية بعيداً عن الشرق الأوسط، ولديه دافع قوي لمعارضة وعرقلة أي جهد لتخفيف التوترات مع طهران. ولتحقيق أهدافه ستكون علاقته بالخدمات العسكرية والإعلام من أكثر الأسلحة فائدة في ترسانته.