ما بين الرواية وعلم النفس
يقول أحمد مراد الكاتب المصري في أحد الحوارات بأن رحلة “الفيل الأزرق” استغرقت عامين من البحث في عالم روايته النفسي المسكون بالخطر، وقصص الجريمة والانحرافات النفسية والإجرامية، حيث استطاع من خلال صديق دخول مستشفى العباسية، والاقتراب من الحالات الخطرة، ومشاهدة سلوكها، حتى استطاع استيعاب هذا العالم بشكل صحيح، وشهادة الأطباء أنفسهم نقلها بشكل دقيق في الرواية، وأتبع ذلك بالبحث النفسي حتى وجد الحالة التي يبحث عنها وتكون مطابقة لقصة بطل الرواية.. لا يظهر أحمد مراد ككاتب قام بزيارة طبيب نفسي، وتلقى منه بعض النصائح والمعلومات، ورمم بها هوامش كتابه، بل يظهر كباحث قرأ قبل الكتابة، ودرس أدق التفاصيل في الطب النفسي.
العلاقة بين الأدب والنفس لا تحتاج إلى إثبات، لأنه ليس ثمة من ينكرها، وكل ما قد تدعو الحاجة إليه هو بيان هذه العلاقة ذاتها، وشرح عناصرها، على أي نحو يرتبط الأدب بالنفس؟ أيستمد الأدب من النفس، أم تُستمد النفس من الأدب، أم أن العلاقة بينهما علاقة تبادل من التأثير والتأثر؟.
الرواية والطبيب النفسي
كان “فرويد” يعقد مقارنة بين الروائي وعمل الطبيب النفسي، ويقول إن الاثنين مجالهما الحياة النفسية، وما يصل إليه الطبيب النفسي بالعلم يبلغه الأديب بالحدس، وقد ذكر أنه ليس صاحب الفضل في الكشف عن العقل الباطن، وقال: إن الفضل الصحيح يعود إلى الأدباء.
الأديب يعرف كثيراً عن حقيقة النفس الإنسانية، وربما أكثر من علم النفس، حتى إن فرويد وجد خطاً مشتركاً بين الأديب والشخص الذي أصيب بالاضطراب العقلي والجنون، فكلاهما ينفصل عن الواقع، ويحلّق في آفاق الخيال والأحلام والرؤى، بيد أن الفارق الأساسي بين الأديب والمريض العقلي هو أن الأديب ينجح مرة أخرى في العودة إلى الواقع، واكتشافه بصورة أفضل، في حين أن المجنون أو المريض العقلي يفشل في ذلك، وقد يظل أسيراً للهذيان والهلاوس والتعايش في مستويات خيالية لا تمت للواقع بصلة.
تضيف مدرسة “كارل يونغ” بعض الأفكار المفيدة في فهم البناء النفسي للعمل الأدبي الذي نقل بحثه من اللاشعور الفردي إلى اللاشعور الجمعي، فالشخصية الإنسانية لا تقتصر على حدود تجربتها الفردية، بل تمتد لتستوعب التجربة الإنسانية للتاريخ البشري، وأن هذه الشخصية تحتفظ في أعماقها بالنماذج والأنماط العليا التي تختمر في الثقافة الإنسانية عبر الأجيال المختلفة، وتنتقل على شكل رواسب نفسية موروثة عن تجارب الأسلاف، وتدخل هذه النماذج والأنماط في تركيب الفرد، وطريقة التخيل الإنساني، إن الحالة النفسية للأديب تظل مصدر الكتابة، وهي بلا شك تؤثر سلباً أو إيجاباً على نتاج الأديب، فالمزاج الرائق سينتج أدباً غير ما يمكن أن ينتج صاحب النفس القلقة التي تعاني مشكلات نفسية واضطرابات سلوكية، فالأدب أرض واسعة مليئة بأماكن خفية لا يدخلها من لا يملك شغفاً والتزاماً مطلقين، والرواية أكثر الأنواع الأدبية التي يسهل أن تضيع بين جنباتها، ففيها يحيا الكاتب وغيره، وسط الكلمات والأفكار والصور، وكلا الالتزامين، سواء الكتابة أو القراءة، هما بمثابة الحياة والوسيلة التي يعثر عليها كل واحد منا ليجتاز الوحدة، وتعلم الحديث مع النفس.
مسرحيات وروايات
من الصعوبة القول إن هناك أدباء درسوا علم النفس، وأمسكوا بأقلامهم، ثم صاغوا أدباً يعبّر عن مشاكل النفس، من المؤكد أن الأمر ليس بهذه السهولة، لأن صراع الإنسان وحيرته واضطرابه مع نفسه أمر بالغ الحيرة والتعقيد، وعلى الجانب الآخر، كان علم النفس يبدأ بتحليل وتفنيد سلوك البشر ودوافعهم لفعل شيء ما، مثل السرقة والكذب أو الخيانة، ومع الوقت باستطاعة الكثير من الأدباء تجسيد ما يشعر به الإنسان، والمشاكل التي تسبب له ألماً داخلياً، مثل الصراع بين الخير والشر، أو الخوف من الاعتراف بشيء ما، أو مظهر الإنسان حينما يتعرى بأخطائه أمام الآخرين، ومن الأمثلة العديدة التي جسدها الأدباء في أعمالهم مسرحية هاملت لشكسبير، حيث يعالج الأمور النفسية لأبطاله، في هذه المسرحية يوجد هاملت الأمير الذي قتل عمه والده، وتزوج أمه وحكم الامبراطورية، هنا نجد أن هاملت البطل التراجيدي يشعر بالإثم لما حدث ويرغب في الانتقام لوالده مما حدث، فيظل يتخبط وتضطرب حياته، وصراعه النفسي يكمن في رغبته بقتل عمه والانتقام لأبيه حتى يتخلص من عذاباته، وبعد قصة طويلة من المحاولات يتخلص هاملت من عقدته وينتقم ثم يموت هو في النهاية.
وطبعاً هناك الأديب ديستوفسكي الذي كانت كل أعماله تقريباً تملك طابعاً نفسياً، وتجسد عذابات نفسية يتعرّض لها الأبطال في سياقات مختلفة، ومع مشكلات متعددة، ففي رواية الجريمة والعقاب يغوص الكاتب في الأعماق ويصف بشكل دقيق الناحية السيكولوجية لنفسية القاتل، وكيفية شعوره بالذنب، وقبول اعترافه بحقيقته، لهذا فهي رواية نفسية بامتياز.
وفي رواية “طعام صلاة حب، امرأة تبحث عن كل شيء” تتحدث الكاتبة اليزبيث جيلبرت عن امرأة في الثلاثين من عمرها لديها حياة ناجحة، ولكن بدلاً من شعورها بالسعادة يتملكها الذعر والارتياب، وبسبب ذلك تترك كل الأمور خلفها وتبدأ البحث عما تريده في الحياة، وتبدأ رحلتها لدراسة ثلاثة جوانب مختلفة من الحياة في ثلاث ثقافات مختلفة.
في النهاية العلاقة بين الأدب وعلم النفس مترابطة ومتداخلة بشكل كبير، فبناء الشخصيات المحورية يستدعي على الأغلب أن تكون ذات كثافة سيكولوجية، وكتلة من الصراع الداخلي والخارجي، ولكن بحيلة ولعب روائي، ومنح موارب لمفتاح أساسي يسبر الدهاليز النفسية في الرواية، وكشف الجانب الباطني وأيديولوجية النص على اعتبار أن تأويل النص والغوص في نفسية الشخصيات أمر لا يخلو من جزئية الكاتب نفسه، وربما القارئ أيضاً، فهو انعكاس طبيعي لكثافة تجربة الكاتب في معاينة طرائق البشر.
عُلا أحمد