الحرب والسلام!
ما كان الروس عامةً يعرفون ماذا حدث حين دحمت بلادهم الجيوش النابليونية، كانوا مظلومين مسحوقين في أريافهم وأراضيهم بسبب قوانين القنانة، وكانوا مثلوجين لا يعرفون طعوم الدفء في أيام الشتاء القاسية جداً، وكانت أعمارهم منهوبةً ما بين صلف ملاّك وغرور ملاّك آخرين، وكانت بناتهم الأقمار لا يعرفن طعوم السعادة أو الهناءة، كنّ خادمات في البيوت والأرض ومحطات القطارات، كنَّ ماكينات ترفع أكوام الثلج من الطرقات ومن أمام عتبات البيوت ومن فوق الأسطحة، وكانت الأمراض تفتك بالناس، والجائحات المرضية تمرّ بهم مثل مرور المناجل في حقول القمح، وكان حوذية العربات والخيول لا يجدون من يتحدثون معه (كما يقول العم تشيخوف)، وكان الموظفون الذين ينفّذون أوامر القيصر، بمن فيهم ضباط الجيش، نجوماً لا يراها الناس إلا عندما يرفعون الأعناق عالياً عالياً، وكانت مداخيل المحاصيل، والعمل، والركض اللهوث وراء اللقمة، لا تكفي حاجة البيوت، ومع ذلك هبَّ الروس عام 1812 ليدافعوا عن بلادهم لأنهم كانوا مع بلادهم، وأخذت البيوت، البيوت كلِّها، أجواءُ النفير من أجل مواجهة الغازي الجديد نابليون بونابرت الذي أذلّ شعوب أوروبا وأخمد أنفاسها كي يقول لهم، وبعلو الصوت، ها هم الفرنسيون أهل شكيمة وبأس، رداً على ما كان يوصف الفرنسي به من ضعف.
وقد دافع الشعب الروسي في عام 1812، وتحمّل ويلات الحرب وأرزائها، وما جلبته من خراب وتدمير وأذيات وآلام وفقد، وهجر للقرى والمدن والحقول والمدارس، ليس من أجل الدفاع عن الأراضي الروسية وحدها، وإنما للدفاع عن العالم كلّه، لأن انتصار نابليون في عام 1812 على روسيا كان يعني سقوط العالم كلّه، بالمعنى المجازي، بين يديه، ولهذا كان انتصار الشعب الروسي على جيوش نابليون التي دخلت المدن فحرقتها، واجتاحت القرى والأرياف فهجَّرت أهلها في ظروف مُناخية غاية في القسوة والبشاعة، فعطّلت كل شيء في حياة الروس، لهذا كان انتصار الشعب الروسي على جيوش نابليون انتصاراً عالمياً لحق الناس في الحياة، وحق البلاد في السيادة، وحق العدالة أن ترى راياتها خفاقة طاردة لكربون البارود، وموجات الظلموت القهري!.
ولم يكتب أحد، ولم يقل أحد، ولم يجرؤ أحد أن يقول إن انتصار الروس على جيوش نابليون بونابرت هو انتصار لروسيا، أبداً، لقد كان انتصاراً للعالم والقيم من جهة، وانتصاراً لقدرة الإنسان العظيمة على المواجهة ضد الأخطار التي هدّدت نفسه وبيته وحيّه وبلدته ووطنه من جهة أخرى. ولم يكتب أحد، ولم يقل أحد، ولم يجرؤ أحد أن يقول إن انتصار الروس على جيوش نابليون بونابرت لا يعنيه، وهو شأن داخلي، وصراع من أجل الاستحواذ على الغنائم، أبداً، حتى أهل فرنسا عناهم انتصار روسيا على جيوش قائدهم نابليون، لأن مقابر قراهم ومدنهم امتلأت بأجساد أبنائهم، لقد قالوا وبعلو الصوت: لابدّ من خاتمة!.
ومع أن النصر ولود، وله أطياف ولود ملوّنة وجميلة أيضاً، إلا أن الروس هم وحدهم من عرف ويلات الحرب وحرائقها، وهم من سمعوا أصوات استغاثات الصبايا الروسيات وهنّ يُغتصبن بالقوة والعنف والإخافة في البيوت المحروقة، وقرب الأدراج، وفوق الثلج أمام عتبات البيوت، وهم وحدهم الذين ذاقوا طعوم الحزن، والفقد، والذكريات، والمواجع التي التهمت حتى الحجارة، ومع ذلك أهدوا انتصارهم للعالم كله!.
أقول هذا، بعد أن فرغت من قراءة (الحرب والسلام) للعم تولستوي، وقد تراكمت صفحاتها الطوال حولي مثل بيدر زل التبن، والتعب، والعطش، والركض المجنون.. كيما يبدو القمح راهجاً بلونه الذهبي، وكيما تبدو الصبايا بارقات الوجوه بأثوابهن البارقة، وقد حلّقن في الأجواء غناءً، وابتساماً، وزهواً لا يُدانى.
حسن حميد
Hasanhamid55@ yahoo.com