الطفولة المنسية.. امتهان للتسول واستغلال مجتمعي وأسري للبراءة!
التسوّل من الأمراض الاجتماعية التي أصابت المجتمع السوري، حيث ازدادت أعداد المتسولين بشكل كبير في السنوات السابقة، فمنهم من اتخذ التسول مهنة ليتفنّن بأساليبها، سواء أكانوا محتاجين أم غير محتاجين، لكن الطامة الكبرى الطفل الذي ينشأ في كنف عائلة متسولة أباً عن جد، كيف يمكننا إنقاذه وما تأثير ذلك على مجتمعنا؟.
هل نتعاطف معهم؟
أوضحت بتول (20 عاماً) أنها لا تتعاطف مع أي متسوّل سليم البدن ويمكنه العمل، فهناك بعض الأشخاص يرغبون بالحصول على المال بأقل جهد ممكن، لذلك يدفعون بأولادهم لاستجداء عطف المارة. ويخالفها إبراهيم (22 عاماً) في الرأي، مبيناً أهمية مساعدة الفقراء ومن لا يملكون عملاً، وأن الوضع الاقتصادي سيئ جداً، ويجب علينا المساعدة ولو بمبلغ صغير لطفل محتاج، لعلنا نحسّن واقعهم.
ظروف صعبة
السيدة أم أريج (53 عاماً) تعتقد أن هناك من يدفع الأطفال للتسوّل، ربما أهلهم أو من يقطنون لديهم، فخلال سنوات الحرب فقد الكثير من الأطفال عائلاتهم واضطروا إلى العيش بظروف صعبة، ومرغمين على التسول. وأبدى محمد مهنا (40 عاماً) عدم تعاطفه مع أي متسول، سواء أكان طفلاً أم شخصاً بالغاً، لأن التسول ليس حلاً أبداً، ومن المعيب استغلال طفل صغير لجني المال.
أطفال.. دون مستقبل
التسوّل حالة اجتماعية، فالشخص المتسوّل ليس مريضاً نفسياً وليس لديه أية اضطرابات نفسية، باستثناء الطفل الذي ينشأ في هذه البيئة ويكون مجبراً على استجداء المارة لجلب مبلغ معيّن من المال في نهاية اليوم بتأثير عنف أهله أو ذويه، وعندما يكبر سيعاني من اضطرابات نفسية، وهذا ما أشار له اختصاصي الأمراض النفسية وطب نفس الأطفال الدكتور ثائر حيدر الذي أكد على انعكاسات ونتائج التسول على الأطفال، حيث يشعر الطفل المتسول بأنه أدنى مستوى من الآخرين، ويصبح ضعيف الشخصية، وغير واثق بنفسه، كذلك أشار إلى أن الطفل الذي يتسوّل يتعامل مع أناس أكبر منه سناً، ويقضي أغلب وقته في الشوارع والحدائق ودون رقابة أو عناية، فيتعرض في كثير من الأحيان إلى تحرش لفظي أو جسدي مما يسبّب لديه اضطرابات جنسية أو نفسية مستقبلاً. وأضاف حيدر أن الأطفال المتسولين أغلبهم متسربون من المدارس ومحكوم عليهم بمستقبل فاشل، حيث يصلون إلى عمر 15 أو 20 عاماً دون مهنة أو شهادة، مشيراً إلى ضرورة اهتمام المعنيين من وزارات وجمعيات بهذه الحالات لما لها من تأثير سلبي على المجتمع ككل.
أمر شائع
بدورها المعالجة النفسية رفيف سعده أكدت أن التسوّل في السنوات الأخيرة أصبح أمراً شائعاً بسبب ظروف الحياة الصعبة، وسهولة التسول مقارنة بالعمل المضني، والموضوع معقد عند الطفل كونه يعتاد منذ نشأته على أخذ المال من الآخرين لتأمين احتياجاته، ومقارنة بوضعه ووضع أسرته فأخذ المال أفضل من الذهاب إلى المدرسة أو الشعور بالجوع. وترى سعده أن هناك بعض العائلات التي تدفع أطفالها إلى التسول، وكذلك هناك أطفال مُستغلون من أفراد لجمع المال مقابل أجر زهيد أو حتى لقمة العيش، مشيرة إلى عدم إمكانية لوم طفل قاصر، بل يجب توجيه اللوم لمن يدفعونه لهذا السلوك.
اجتماعياً.. الأسرة أولاً
إن الأطفال المتسولين يجب أن يكونوا على مقاعد الدراسة، وأن تقدم لهم الرعاية والحماية، وهنا يأتي دور وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل للوقوف على هذه الظاهرة ونتائجها الخطيرة على المجتمع، والتشديد على القوانين وتطبيقها، هذا ما أكدت عليه الدكتورة أمل دكاك (أستاذة في قسم علم الاجتماع)، مشيرة إلى أن هذا الطفل سيكبر في المستقبل، وربما يتحوّل إلى سارق بعد أن اعتاد في طفولته على أخذ المال، أو يتحوّل إلى شخص بالغ لا يرضى عنه المجتمع ولا عن سلوكياته. ولفتت إلى أن ظاهرة التسول ليست جديدة على المجتمع السوري، وموجودة بكل دول العالم، وأي شخص بحاجة ويمدّ يده طلباً للمساعدة، من المفروض أن يُؤخذ إلى دار للرعاية، سواء أكان طفلاً أم كبيراً في السن.
ظاهرة قديمة
أحمد اللحام (أستاذ في قسم علم الاجتماع) أكد أن ظاهرة التسول تنتشر في معظم الدول والبلدان في العالم، وهي ظاهرة قديمة تعرفها المجتمعات الإنسانية من زمن طويل، غير أن أشكالها ومستوياتها ودرجات الخطورة المترتبة عليها تختلف من وقت إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع.
ويرى اللحام أن هناك الكثير من العوامل التي تدفع الأطفال للتسول، أبرزها حاجة الأطفال أنفسهم أولاً وتشجيع أسرهم لهم، ووجود من يقدم المساعدة لاعتبارات إنسانية وأخلاقية وخيرية، إضافة إلى احتمال وجود جماعات مستفيدة منهم، تعمل على توظيفهم والاستفادة منهم، كما أشار إلى أن ظاهرة التسول في ظروف الحرب أخذت أشكالاً جديدة يمكن أن تكون أكثر خطورة مما كانت عليه في الماضي، حيث ازدادت مستويات الفقر، واتسعت ظاهرة الأسر التي غيّرت مكان إقامتها، ونمت ظاهرة تشرد الأطفال، فجعلت شريحة كبيرة منهم التسول مصدر دخلها.
وأكد اللحام ضرورة التمييز بين الأسر الفقيرة فعلاً والتي تدفع أبناءها للتسول، والأسر التي يندفع فيها الأطفال إلى التسول بفعل غياب الأسرة أو تفككها، فلكل مجموعة من المتسولين طرق معالجة تختلف عن غيرها، وكذلك ضرورة المتابعة الاجتماعية والمراقبة من الجهات المعنية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، إضافة إلى تحسين مستويات المعيشة والحدّ من مستويات الفقر التي يمكن أن تهدّد المجتمع السوري بكل مكوناته فيما بعد.
قانون.. ولكن؟
عالج قانون العقوبات السوري وتصدّى لظاهرة التسول، وضمّن بعض المواد فيه معاقبة مرتكب هذا الفعل أو من يقوم بتشجيعه أو استغلال أناس لمصلحته، هذا ما أشار إليه المحامي عز الدين الحميري الذي لفت إلى المرسوم ٨ لعام ٢٠١٩ القاضي بتعديل 4 مواد من قانون العقوبات الصادر عام 1949، والمتعلقة بمعالجة ظاهرة التسول، إذ تضمن القانون تعديل المادة 596 من قانون العقوبات، بحيث تصبح عقوبة من يكون له موارد أو يستطيع الحصول على موارد بالعمل واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان كان صراحة أو ضمناً، الحبس مع التشغيل من شهرين إلى سنة وبالغرامة من 10 آلاف إلى 25 ألف ليرة سورية، ويمكن أيضاً وضعه في دار للتشغيل وفقاً للمادة 79 ويقضى بهذا التدبير وجوباً في حالة التكرار، وكذلك نصّ القانون في مادته الثالثة على تعديل المادة 599 من قانون العقوبات، والتي حدّدت عقوبة المتسول الذي يستجدي بالتهديد أو أعمال الشدة، أو بحمل أي وثيقة كاذبة، أو بالتظاهر بجراح أو عاهات، أو بالتنكر على أي شكل كان، أو باستصحاب ولد غير ولده أو أحد فروعه ممن هو دون العاشرة من العمر، بحيث يعاقب بالحبس من سنة إلى 3 سنوات مع التشغيل، وبالغرامة من 25 إلى 50 ألف ليرة، فضلاً عن وضعه في دار للتشغيل إذا كان غير عاجز، وبالحبس البسيط المدة نفسها إذا كان عاجزاً.
وبيّن الحميري أن كل من دفع قاصراً دون الـ 18 من عمره أو عاجزاً إلى التسول بأي طريقة كانت جراً لمنفعة شخصية، ستكون عقوبته الحبس مع التشغيل من سنة إلى 3 سنوات، وبالغرامة من 50– 100 ألف ليرة. وأوضح أنه في أواخر آذار 2019، أقرّ مجلس الشعب تشديد عقوبة ظاهرة التسول الواردة في قانون العقوبات، بحيث يتمّ رفع الغرامات المالية حتى 100 ألف ليرة مع سجن 3 سنوات لمن يشغّل القاصرين والعاجزين، فيما يُسجن المتسول من شهرين حتى سنة وغرامة تصل إلى 25 ألف ليرة.
سيّار.. لأجل كل طفل
لا شك أن العمل التطوعي من أهم معايير تقدّم المجتمعات وتطورها، وانطلاقاً من أهمية العمل التطوعي نشأ فريق سيّار عام 2014، ومن خلال حديثنا مع السيدة لمى النحاس (مؤسس ورئيس مجلس أمناء مؤسسة ع. سيار) أكدت لنا أن هناك الكثير من الأسباب التي تدفع الأطفال للتسول، أبرزها الحالة الاقتصادية السيئة لبعض العائلات أو الخلافات العائلية مثل انفصال الأبوين أو تعنيف الأطفال ما يدفع الطفل للجوء إلى الشارع، وكذلك وجود بعض المُستغلين للأطفال الأيتام وتشغيلهم بمهنة التسول، وللأسف هناك عائلات تمتهن التسول حيث تورث هذه المهنة للأبناء ثم الأحفاد.. وهكذا!!.
وأشارت النحاس إلى أنه قبل الحرب كانت هناك أعداد قليلة من الأطفال المتسولين، لكن بسبب حالات النزوح الكثيرة من الأرياف والمناطق الأخرى أصبح التسول ظاهرة ولأطفال بأعمار صغيرة وظروف بيئية قاسية، سواء بالصيف أو الشتاء، مما زاد مسؤولية الفريق التطوعي بتوفير بيئة مناسبة للأطفال وتوعيتهم بحقوقهم وغرس القيم الإنسانية لديهم، والمواطنة والانتماء للوطن، وذلك من خلال مجموعة من النشاطات أهمها (تعليمهم القراءة والكتابة، سرد القصص، العلاج بالفن، مسرح دمى)، وبيّنت حالات النجاح التي حقّقها الفريق التطوعي بالتعاون مع الجهات المعنية من وزارات وجمعيات ومؤسسات من خلال توفير مراكز إقامة مؤقتة للأطفال.
جهود مبشّرة
لعلّ الآلية الجديدة التي تعمل عليها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بالتنسيق مع الوزارات المعنية للتصدي لظاهرة التسول تؤدي هدفها بمساعدة الأطفال المهمّشين ومنحهم حقوقهم، وذلك بعد إعادة تشكيل مكتب مكافحة التسول والتشرد في محافظة دمشق، فنحن ننتظر وكلنا أمل ببناء مجتمع مُعافى.
يارا شاهين