ترجمات الشعر.. بين الواقع والمآل
شهدت مرحلة النصف الثاني من القرن الماضي حركة ترجمة شعرية نشطة من وإلى العربية، ترافقت مع تحولات كبيرة على صعيد بنية القصيدة العربية التي تأثرت إلى حدّ ما بكمّ النصوص الشعرية المترجمة إلى اللغة العربية كنوع من الاغتراب، اعتبره البعض تجديداً وانفلاتاً من قوالب القصيدة التقليدية نحو شعر حرّ، أو منثور أكثر رحابة ومسايرة للتطور الوجداني مع المحافظة على الإيقاع الموسيقي للغة والمزاج الثقافي العام، لكن هذه المرحلة أخذ خطها البياني بالهبوط مع رحيل معظم روادها من جهة، وتقدّم الرواية كجنس أدبي جماهيري منفتح على المزاج الشعبي العام المتطلع إلى منبر يتكلم باسم ضميره المتمرّد على الواقع المنغلق، وكفن أدبي مطواع للترجمة الحرفية أكثر من الشعر المحكوم بالخيال والمجاز والموسيقا. ولهذا وجدنا جنوحاً نحو الترجمة الروائية والقصصية على حساب الشعر الذي بات يحذر الكثير من المشتغلين في مضمار الترجمة، خوض غماره مخافة الملامة من جهة، والإخفاق في احتواء النص وتمثيل خصائصه ومضامينه من جهة أخرى، كما يرى الناقد المصري الدكتور جابر عصفور، عندما قسّم مترجمي الشعر إلى نوعين: الأول المحاكي الذي لا يستطيع احتواء خصوصيات النص واللغة على السواء، والتأويلي الذي يقدم ترجمة حقيقية تعتبر بمثابة خيانة خلاقة للنص، فهو يقوم بإعادة إنتاج النص الأصلي بما يتفق واللغة الجديدة والثقافة التي ينقل إليها.
وبهذا المعنى فإن ترجمة الشعر تحتاج إلى شاعر متمكّن من أدواته وصنعته، ويعرف كيف يحتوي النص إيقاعاً وصوراً ومجازات وأخيلة، مثال ترجمة الشاعر المصري إبراهيم ناجي والشاعر خليل خوري لديوان بودلير “أزهار الشر” وغيرهم أيضاً، مع هذا هناك الكثير ممن يؤكدون استحالة ترجمة الشعر دون أن يفقد الكثير من ميزاته، ولاسيما الشعر العربي المحكوم بخصوصية تميّزه عن غيره، متمثلين برأي الجاحظ في كتاب “الحيوان” الذي يقول فيه: “الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوِّل تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب فيه..”، رغم أن الشعر العربي الحديث في حلّ -إلى حدّ ما- من هذه الحقيقة التي استندت إلى بناء القصيدة العربية التقليدية القديمة، لكن تبقى المسؤوليات التي يتحمّلها المترجم غير قليلة ولا بسيطة تجاه النص، منها مسؤولية أخلاقية تجاه القارئ وفكرية حضارية تجاه سيرورة الأدب.
فالشعر من أهم الأجناس الأدبية التي تتجلّى فيها خصائص الشاعر، ومنها النفاذ إلى ما وراء المحسوسات من معانٍ إنسانية، واستلهام ما يعتمل في النفوس من مشاعر وجدانية يتعذّر ترجمتها، إلا إذا كان الشاعر هو المترجم لشعره كحال شاعر الهند “طاغور” الذي تولّى بنفسه ترجمة شعره إلى الانكليزية، رغم أن موقفه من الترجمة عموماً يتجلّى بقوله: “إن قوة البيان لا تكون واحدة في اللغتين، لأن لكل كلمة جوها الخاص بها في لغتها، وإذا أمكن ترجمة تلك الكلمة، فإن هذا الجو الخاص لا يُترجم، وإذا كان المترجم شعراً، فإن موسيقا الشعر بلغته الأصلية لا تترجم، حتى ولو كان المترجم الشاعر نفسه”.
تلك الحقائق الملموسة والصعوبات المختلفة يضاف إليها تراجع مكانة الشعر في التصنيف الجماهيري، بعد رحيل الرعيل المجدّد والمبتكر الآسر من شعراء عرب، حالت مجتمعة دون انبعاث مبادرات جديدة تأخذ على عاتقها مواكبة الحراك الشعري العالمي وتطوره لخلق ثقافة تفاعلية وجدانية بين الشعوب المختلفة، فالترجمات المحدودة والخجولة التي تظهر هنا وهناك باتت لا تفي بالغرض على هذا الصعيد، بانتظار مترجمين شعراء استثنائيين يحركون مياه الترجمة الراكدة.
آصف إبراهيم