شركة النقل الداخلي تعمل بطريقة “التاجر”.. ارتكاباتها تشي بـ “سيناريو خصخصة”.. فمن المستفيد؟
“البعث الأسبوعية” ــ طلال ياسر الزعبي
يعاني سكان بلدات جديدة عرطوز والفضل وضاحية عرطوز، كغيرهم من سكان الريف الدمشقي، مشكلة مزمنة مع النقل؛ ففي وقت اعتقد قاطنو هذه البلدات أن باصات النقل الداخلي حلت أزمة النقل المستعصية، واستبشروا خيراً بدخول مؤسسة النقل الداخلي على طريق الحل، تبين أن الشركة دخلت إلى العمل على طريقة “التاجر”؛ ففي ساعات الصباح الأولى، يأتي عدد لا بأس به من الباصات على التوالي للاستفادة من الازدحام الشديد، ليقوم السائقون بحشر عدد كبير من الركاب – الذين أغلبهم من طلاب الجامعات والعمال – في باصاتهم، بحيث لا يكون هناك متسع لقدم جديدة في ظل مخاوف شديدة من انتشار وباء كورونا، ثم يقل عدد هذه الباصات تدريجياً ليتم تدويرها في مكان آخر، في وقت يبدأ طلاب الجامعات بالانتظار في منطقة البرامكة للعودة إلى منازلهم دون أن يتوفر العدد الكافي من الباصات لتخفيف الازدحام هناك، حيث يمكن أن تتجاوز أعداد المنتظرين المئات، ويستمر الازدحام الشديد حتى الساعة السابعة مساء، دون اكتراث من الشركة العامة للنقل الداخلي للأعداد الهائلة التي تضطر للانتظار ساعات طويلة للعودة إلى المنازل، مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر ومساوئ، وخاصة أن فترة الذروة هي ذاتها فترة تبديل الورديات، حيث يقل عدد الباصات بشكل لافت.
ولدى استفسارنا من بعض السائقين عن عدد الباصات العاملة على خط دمشق جديدة عرطوز، أجاب أحدهم بأن العدد هو أربعة باصات فقط، وهو الرقم الذي تمت الموافقة عليه أصلاً، بينما تحدث سائق آخر عن أن عدد هذه الباصات يصل إلى 10، بعد احتساب الباصات المفروزة لتغطية الضغط على الخط.
لديهم تحفظ
السائقون تحدثوا بأنهم يقومون بشراء دفتر التذاكر سلفاً منذ الصباح بمبلغ ثلاثين ألف ليرة، بواقع ثلاثمئة تذكرة يجب عليهم بيعها خلال الوردية بشكل يومي، وإلا فإن عليهم تغطية ذلك على نفقتهم، وهم يقولون إن الراكب على هذا الخط لا يتم تبديله بشكل متكرر، لذلك لا يفضلون العمل عليه، بل يحبون العمل على الخطوط الداخلية، مثل الدوار الجنوبي الذي يتبدل فيه الركاب بشكل متكرر، وبالتالي يستطيع السائق بيع التذاكر الموجودة، والحصول على مبالغ إضافية، وهذا يمكن أن يفسر ربما غياب بعض هذه الباصات في فترة الذروة، حيث أسر لنا بعض طلاب كلية الهندسة المدنية المقيمين في جديدة عرطوز بأنهم تعاقدوا مع سائق على الخط ذاته يقوم بنقلهم إلى كليتهم عبر الطريق المتحلق، ويتقاضى 300 ليرة عن الراكب، حيث إن السائق يقوم فقط بتغيير اللافتة إلى الخط الذي يجد فيه جدوى.
سائق آخر أكد أنه يستعين بزملائه على الخطوط الأخرى، من الذين باعوا دفاترهم، ليقوموا ببيع تذاكره الفائضة، وهو ما يعده سبباً من أسباب نفوره من العمل على الخط، وظلماً واضحاً تمارسه إدارة الشركة عليه، لافتاً إلى أن إدارة الشركة قد تحول أحياناً خط الباص إلى الهامة، أو قدسيا، من أجل بضعة ركاب على الخط، بينما يكون هناك المئات من ركاب جديدة عرطوز ينتظرون في البرامكة، الأمر الذي يصعّب مهمته في بيع حصته من التذاكر التي اشتراها سلفاً، بمعنى أن الإدارة لا تراعي هذا الأمر عندما تقوم بتحويل خط الباص، مبيناً أنه “لا مشكلة في عدد الباصات وإنما المشكلة في إدارتها، فأحيانا بدل أن يقوم الباص بالعودة إلى المنطقة يتم فرزه إلى خط آخر، الأمر الذي يؤدي إلى الضغط على الخط!!”.
تطلب المؤازرة
هذا النقص في عدد الباصات العاملة على الخط دفع محافظة دمشق إلى طلب مؤازرة الشركات الخاصة التي تلبي الطلب على طريقتها، حيث ترسل مؤازرة منها ولكنها تقوم باختصار الخط، وإنهائه عند مفرق جديدة عرطوز، بحجة أن المازوت قد نفد، أو أن الشركة حددت الخط على هذا النحو، حيث يقوم السائق بإعلام الركاب في البرامكة بأن نهاية الخط مفرق الجديدة، بينما نهاية الخط الفعلية عند مفرق كوكب في عرطوز، على بعد ثلاثة كيلومترات تقريباً، وذلك على مرأى الضابطة المرورية الموجودة هناك؛ وقد وقفت “البعث الأسبوعية” على هذه الظاهرة، وسألت مراقب الخط التابع للشركة الخاصة، فادعى أنه لا يعلم أين ينتهي الخط، وأحالنا إلى مدير الشركة للإجابة عن السؤال.
ولدى سؤال عضو المكتب التنفيذي لشؤون النقل والمواصلات في محافظة دمشق، مازن الدباس، أكد أنه طلب من شركة كوجك للنقل الداخلي المؤازرة لتغطية النقص الحاصل، وتحدث مع مديرها هادي المدني على مسمعنا على الهاتف، سائلاً إياه عن نهاية الخط، حيث قال المدني إن نهاية الخط عند مفرق الجديدة، فطلب منه إتمام الخط إلى نهايته، وتلقى منه موافقة مباشرة على ذلك.
“المرور” لا تراقب
الدباس أكد أن مشكلة النقل في ريف دمشق يتحمل الجزء الأكبر منها أصحاب السرافيس، الذين يحصلون على حصتهم كاملة من المازوت ولكنهم لا يعملون على الخطوط؛ ورد ذلك إلى انعدام الرقابة على عملهم من الجهات المعنية في الريف، وخاصة شرطة المرور، لافتاً إلى أن الشركة لا تستطيع تغطية الخطوط بمفردها.
ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء حتى يتأكد من أن السرافيس العاملة على الخط لا تعمل وفقاً للمطلوب، فمن يراقب هذه السرافيس في البرامكة، وخاصة عند كلية الاقتصاد، يتأكد أنها تتعاقد مع مجموعة من الطلاب بأجرة أكبر مقابل تأمين عودتهم، فهم إما يغافلون شرطي المرور، وإما تتم تغطيتهم بطريقة معينة.
لم نتمكن من مقابلته
وقد حاولنا مراراً الحصول على موعد لمقابلة سامر حداد، مدير الشركة العامة للنقل الداخلي في دمشق وريفها، ولكن دون جدوى، حيث تبين لنا أن جدول أعماله اليومي مملوء بالاجتماعات، وهو الأمر الذي أكدته مديرة مكتبه، مع العلم أن المدير لا يبخل بالتصريح لوسائل إعلامية أخرى.
وحول موضوع العجز عن تغطية النقص الحاصل على الخط، رغم أنه من الخطوط الحيوية بامتياز، وهو الأمر الذي يؤكده الازدحام الشديد، حيث يمكن أن يخدم الباص الواحد أكثر من مئة وأربعين راكباً في الرحلة الواحدة، أكدت مصادر مطلعة في الشركة أن مجموع الباصات العاملة لا يتجاوز 190 باصاً، بينها 65 مخصصة للمهمات، وهي قديمة، ونحو مئة وعشرين باصاً حديثاً تعمل على نقل الركاب، وقد طرحت الشركة مؤخراً مناقصة لإصلاح نحو مئة باص معطل، وستقوم بفرز عشرين باصاً منها على هذا الخط.
المصادر ذاتها أشارت إلى أن الشركة تعاني مشكلة كبيرة في قطع الغيار، وأنها تضطر أحياناً لتحييد بعض الباصات المعطلة من الخدمة لعجزها عن إصلاح أعطالها، مؤكدة أن فترة ضمان الباصات الجديدة لم تنته بعد، وهذا ما يشكل عائقاً أمام إصلاحها، علماً أن الضمان ذاته غير موجود فعلياً، وكل هذه الأمور يتم تعليقها في النتيجة على ما يسمى “قانون قيصر”، مع أن الشركة باستطاعتها نظرياً إرسال بعض الفنيين إلى الصين للتدريب على الإصلاح، أو طلب قطع الغيار من البلد المصدر.
مكان الازدحام وليس العدد
في المحصلة، يمكن للمرء أن يتساءل: هل عجزت مؤسسة النقل الداخلي عن تقدير مشاهد الازدحام الهائلة في منطقة البرامكة، في وقت رأت محافظة دمشق مشهد الازدحام تحت جسر السيد الرئيس مشهداً مشوهاً، علما أنه لا مجال للمقارنة أبداً في حجم الازدحام بين المكانين القريبين نسبياً من حيث العدد؟ وكيف تذكرت الشركة – الآن فقط – أن لديها باصات معطلة بأعداد كبيرة ينبغي إصلاحها، أم أن رغبة الشركة في جني الأرباح من الباصات الجديدة أنستها أن إصلاح الباصات الأقدم يمكن أن يساهم في حل مشكلة النقل، وتحقيق أرباح أكبر في آن معاً، علماً أنها تؤدي خدمة مأجورة شأنها في ذلك شأن الشركات الخاصة..
إن الشركة العامة للنقل الداخلي تملك سمعة كبيرة اكتسبتها من تاريخها العريق في تحقيق أرباح كبيرة للقطاع الحكومي، وذلك لا يتحقق فقط من استثمار الباصات الجديدة إلى أن تتعطل، ثم يتم تحييدها وركنها في مرآب الشركة، بل ينبغي أن يتم العمل على إعادتها تدريجياً إلى الخدمة بكل الوسائل المتاحة، ومجرد الإقرار بأن هناك نحو مئة باص معطل في الشركة منذ زمن ليس بالقليل، فذلك يعني أن كل إنجاز تحققه الشركة من خلال الباصات الجديدة لا يمكن أن يغطي الفشل في إعادة الباصات المتوقفة إلى الخدمة.
ولكن الخشية، كل الخشية، أن يكون هناك من يتعمد تفشيل هذه الشركة لمصلحة إحلال الشركات الخاصة محلها، كما يحدث مع الكثير من شركات القطاع العام، للأسف!!