“نورد ستريم2” يحرر أوروبا من التبعية الأمريكية
سمر سامي السمارة
أظهرت أعمال الشغب في واشنطن -أكثر من أي أمر مضى- أن السياسة الأمريكية، مع تحوّلها من الجمهوريين إلى الديمقراطيين، ستظل أسيرة الصراع الداخلي المكثف على السلطة. لذا من المرجح أن تركز إدارة بايدن، على الأقل لبعض الوقت، على نزع فتيل التوترات الداخلية وتوطيد السلطة.
وفي الوقت الذي تفقّد فيه الولايات المتحدة أوراق اعتمادها “الديمقراطية” بشكل لا يصدّق، تفقد في الوقت نفسه -في أماكن أخرى من أوروبا- أولويتها كديكتاتور للسياسة الخارجية، وهو منصب اكتسبته في أعقاب الدمار العسكري والاقتصادي الذي عانت منه أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.
يشير قرار ألمانيا بالمضي قدماً في استكمال مشروع “نورد ستريم2” إلى الاتجاه الذي تهبّ فيه الرياح، إذ تبحر أوروبا بعيداً عن الولايات المتحدة، في حين أن الاستكمال المحتمل لـ “نورد ستريم2” لا يشير، ولن يشير، إلى تحالف أوروبا الاستراتيجي مع روسيا، إلا أنه يُظهر تشدّد أوروبا المتزايد تجاه الولايات المتحدة. وفي الوقت الحالي، تمضي ألمانيا وأوروبا قدماً في استكمال خط “نورد ستريم2″، حيث بدأ مدّ خط الأنابيب في الدنمارك فعلياً منذ بداية العام الحالي.
بطبيعة الحال، ترى الولايات المتحدة أن هذه الخطوة بمثابة نكسة إستراتيجية، لذا بدأت تحذّر الشركات الأوروبية من العقوبات، فيما يظهر التصريح عن استكمال “نورد ستريم2” في غضون أيام من توقيع صفقة الاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين بالفعل، تجاهل أوروبا المتزايد للولايات المتحدة من خلال تعاملها مع الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة “شريرة” و”رجعية”.
وقد أبلغت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً، الشركات الأوروبية المشاركة في مشروع خط أنابيب الغاز أنها تخاطر بمواجهة عقوبات، وقال مسؤول أميركي: “نحاول إبلاغ الشركات بالمخاطر ونحثها على الانسحاب قبل فوات الأوان”.
بينما كانت إدارة ترامب السابقة تطارد الشركات الأوروبية المشاركة في المشروع لبعض الوقت، من المرجح أن تتابع إدارة بايدن المسار نفسه، فقد عارض جو بايدن المشروع، عندما كان نائباً للرئيس أوباما.
في الوقت نفسه، لا توجد رغبة في أوروبا لحضور الإدارة الأمريكية الجديدة والتصديق على المشاريع التجارية في أوروبا، فقد كانت الرسالة واضحة، عندما أخبر مؤخراً، وزير الخارجية الألماني هايكو ماس وكالة الأنباء الألمانية “دي بي إيه” أن برلين لن تخضع لضغوط واشنطن، وأضاف أنه بينما ترى ألمانيا فرصة لإصلاح علاقاتها مع الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن، فإن موقفها بشأن “نورد ستريم2” سيبقى ثابتاً دون تغيير.
من الواضح هنا أن ألمانيا وسائر أنحاء أوروبا، قد سئمت من التدخلات والإملاءات الأمريكية المستمرة، لذلك، في حين أن “نورد ستريم2” سوف يلبي اقتصادياً الاحتياجات التجارية الألمانية، فإنه جيوسياسياً، سيساعد ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى في استعادة ممارسة استقلاليتها الإستراتيجية بمواجهة الولايات المتحدة التي كانوا يتمتعون بها قبل نظام الهيمنة الذي فرضته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، أصبح “نورد ستريم2” بالفعل رمزاً للخلاص الأوروبي، ما يشير بقوة إلى أنه لا عودة إلى التطبيع الكامل.
هذا بالضبط ما قاله وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في مقابلة له مع إذاعة “يورب1”: “لن تكون هناك عودة إلى الوضع السابق، إلى العصور القديمة الجيدة للعلاقات عبر الأطلسي”، مضيفاً أيضاً أنه “سيتعيّن علينا بناء علاقة جديدة عبر الأطلسي”، في ضوء التغييرات التي خضع لها العالم في السنوات الأربع الماضية. ولعلّ، من أهم التغييرات، بحسب وزير الخارجية، هي الطريقة “التي أكدت بها أوروبا سيادتها في السنوات الأربع الماضية، في مجالات الأمن والدفاع والاستقلال الاستراتيجي”، مضيفاً أيضاً: أن “أوروبا تخلّت عن سذاجتها في السنوات الأربع الماضية وبدأت فرض نفسها كقوة”.
يُظهر قرار ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى المستفيدة بإكمال “نورد ستريم2” أن مسيرة أوروبا الثابتة نحو استعادة الحكم الذاتي الاستراتيجي مستمرة، وستتجاوز العقوبات التي تهدّد الولايات المتحدة بفرضها.
يتضحُ هذا من الطريقة التي تتخذها ألمانيا بالفعل، فقد تمّ إنشاء صندوق لدرء العقوبات الأمريكية، والسماح للشركات بحيازة درع ضد الإجراءات العقابية التي تعتزم الولايات المتحدة اتخاذها لمعاقبة أوروبا على استقلاليتها وقرارها بعدم شراء كل الغاز الذي تحتاجه من الولايات المتحدة وحدها. إن قرار ألمانيا جاء على حساب البرامج الأمريكية، مثل حزمة الطاقة الثالثة ومبادرة البحار الثلاثة التي موّلتها ودعمتها الولايات المتحدة، لذلك، أصبح “نورد ستريم2” بالفعل اختباراً حقيقياً لمزاعم الوزراء الأوروبيين حول “التغيير” الذي شهدته القارة في السنوات الأربع الماضية، إذ سيؤدي استكماله إلى ختم أوراق اعتماد أوروبا كلاعب مستقل في عالم متعدّد الأقطاب، كما سيُضعف أيضاً قدرة الولايات المتحدة على التلاعب وإملاء القضايا السياسية والاقتصادية العالمية من جانب واحد.