المناخ بين شركات النفط الأمريكية والأوروبية
عناية ناصر
استجابة لتحديات المناخ، أعلنت معظم شركات النفط والغاز الكبرى عن تحولات كبيرة في إستراتيجيتها المؤسسية، فقد شهد العام الماضي صدور موجة من التعهدات من جانب شركات النفط التي تتخذ من أوروبا مقراً لها – ريبسول، وبي بي، وإيني، وشل، وتوتال، وإكوينور – لتصبح شركات انبعاثات صافية صفرية بحلول عام 2050. أما الشركات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها مثل شيفرون وإكسون موبيل حتى الآن لم تحذو حذوها، ولكن في تشرين الثاني الماضي، أحدثت شركتا نفط أمريكيتان، هما أوكسيدنتال بتروليوم وكونوكو فيليبس، اختراقاً لتبني أهدافاً صافية صفرية خاصة بهما. في ظاهر الأمر، تبدو هذه التعهدات رائعة جداً، لكن الشركات تحدد “صافي الصفر” بطرق مختلفة، وهذه الاختلافات، على الرغم من أنها قد تبدو صغيرة وتقنية، فهي لا شك مهمة.
تقليدياً، يمكن تقسيم انبعاثات الشركة إلى ثلاثة “نطاقات”: انبعاثات “النطاق 1” هي الانبعاثات المباشرة من عمليات الشركة الخاصة، مثل الانبعاثات من مولد الديزل على منصة نفط بحرية. تعد انبعاثات “النطاق 2 ” خارجة بخطوة واحدة عن سيطرة الشركة، مثل الانبعاثات الناتجة عن الحرارة أو الكهرباء التي تشتريها من شركات المرافق لتشغيل عملياتها. لتقليل انبعاثات “النطاق “2، قد تقوم هذه الشركات بتركيب الألواح الشمسية لتوليد الكهرباء النظيفة الخاصة بها.
تغطي الغالبية العظمى من التعهدات الصفرية الصافية لشركات النفط انبعاثات “النطاق 1” و”النطاق 2″، لكن هذه الانبعاثات تشكل أقل من 20 في المائة من إجمالي انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الصناعة. في الآونة الأخيرة فقط، غامرت بعض شركات النفط بالالتزام بخفض انبعاثات “النطاق 3″ – الانبعاثات الناتجة عن حرق المنتجات التي تبيعها، مثل البنزين المباع في محطات الوقود.
حتى عندما تقدم الشركات تعهدات بتخفيض انبعاثات” النطاق 3 “، فإنها غالباً ما تستخدم تكتيكاً آخر لتدوير الزوايا: تحديد هدف كثافة غازات الاحتباس الحراري بدلاً من وضع حد أقصى مطلق للانبعاثات. تقيس الأهداف المستندة إلى الكثافة كمية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، مثل الميثان أو ثاني أكسيد الكربون، لكل وحدة طاقة منتجة، مما يسمح في الواقع بزيادة الانبعاثات المطلقة مع زيادة الإنتاج. تغطي تعهدات شل وتوتال بشأن المناخ، على سبيل المثال، انبعاثات “النطاق 3″، ولكن فقط من خلال أهداف كثافة الكربون بدلاً من التخفيضات المطلقة. كذلك تم تحديد هدف “النطاق 3″، لـ “Equinor”عملاق النفط النرويجي، أيضاً من حيث الكثافة، ولكن نظراً لأن هدفه هو “صافي الصفر”، فإن انبعاثاته ستحتاج في الواقع إلى تقليلها بشكل كبير حتى تتمكن الشركة من تحقيق هدفها.
أما شركتا شركة Eni الإيطالية و Repsol الإسبانية فقد حددتا هدفاً مطلقاً يغطي جميع النطاقات الثلاثة، ولكن في حالة Repsol، تم تعيين هذا الهدف عند “net zero، كذلك حددت توتال تعهداً صافياً صفرياً يغطي جميع النطاقات، ولكن فقط لعملياتها في أوروبا والمملكة المتحدة والنرويج، وليس في بقية العالم. وبالمثل، فإن شركةBP لديها هدف صافي صفري مطلق بحلول عام 2050، لكنها تستبعد الانبعاثات الناتجة عن شريكها Rosneft، وهي شركة نفط تسيطر عليها الدولة في روسيا والتي يمتلك BP حصة كبيرة فيها، وبالتالي تتجاهل 46٪ من إجمالي الكربون الناجم عن استثماراتها في شركة BPفي عام 2018. تراهن معظم شركات النفط الكبرى أيضاً على تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه غير المؤكدة – التي تلتقط عملياتها الكربون من الانبعاثات قبل أن يدخل الغلاف الجوي – أو على تعويضات الكربون “القائمة على الطبيعة” مثل زراعة الأشجار لتلبية أهدافهم الصافية صفر.
تتخلف الشركات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها عن نظيراتها الأوروبية في تطوير سياسات مناخية طموحة. فتبدو Exon Mobil، على وجه الخصوص، وكأنها مدافع عن الوقود الأحفوري شديد الصلابة. وتخطط لزيادة إنتاجها من النفط والغاز بمقدار مليون برميل يومياً، من 4 ملايين برميل يومياً بحلول عام 2025. لكي نكون منصفين، باستثناء شركة” إيني”، تخطط جميع شركات النفط الكبرى لزيادة إنتاجها في العقد المقبل. حتى شركة بريتيش بتروليوم ستكون قادرة على زيادة إنتاجها بنسبة 8 في المائة بحلول عام 2030، على الرغم من تعهدها بخفض إنتاجها النفطي بنسبة 40 في المائة بحلول ذلك العام، لأن هذا التعهد لا يغطي حصتها في” روسنفت”. ومع ذلك، لا توجد شركة تخطط لإنتاج بحجم كبير مثل شركة” إكسون موبيل” .
إذ تراهن شركة إكسون موبيل على أنها ستكون شركة النفط الرئيسية الوحيدة التي ستكون لديها القدرة على زيادة الإنتاج عندما تتعافى أسعار النفط، لكن هذا رهان محفوف بالمخاطر. قد تغير إدارة بايدن اللعبة بالنسبة لشركة ” إكسون موبيل” والشركات الأمريكية الأخرى إذا نفذ وعود حملته المتعلقة بالمناخ. ليس من المستغرب أن توصلت الأبحاث إلى أن شركات الطاقة التي أحرزت تقدماً في إزالة الكربون تميل إلى التواجد في أو بيع منتجاتها في مناطق ذات أنظمة بيئية أكثر صرامة. ومن المحتمل أن يكون الدافع وراء إصلاحاتهم هو الإجراءات الحكومية، وليس القناعة – وقريباً قد تخضع إكسون موبيل أيضاً لمتطلبات مماثلة.
التحول من نفط كبير إلى طاقة كبيرة
بالإضافة إلى التعهدات الصفرية الصافية، أعلنت معظم شركات النفط الكبرى أيضاً عن تحولات في تخصيص رأس المال للحصول على موطئ قدم خارج النفط والغاز، في “الطاقة الجديدة”، وهي مجال واسع تشمل المشاريع الخضراء مثل الطاقة الشمسية والرياح، ولكن يحتمل أيضاً أن تشمل الحلول الخضراء ولكن بشكل أقل، الهيدروجين والوقود الحيوي. يمكن أن تشمل الطاقة الجديدة أيضاً بناء بنية تحتية جديدة مثل محطات شحن السيارات الكهربائية والاستثمار في الشركات التقنية الناشئة ذات الصلة. حتى الآن، بلغ إنفاق شركات النفط الكبرى على هذه المشاريع الجديدة أقل من 1 في المائة من إجمالي نفقاتها الرأسمالية، وذهب معظم هذا التمويل إلى عمليات الدمج والاستحواذ الإستراتيجية، بدلاً من رأس المال الاستثماري للشركات.
ولا يزال جزء كبير من كبار النفط Big Oil للتخلص من الكربون يدور حول الوقود الأحفوري، فبعض شركات النفط الكبرى تريد التحول إلى الغاز الطبيعي، وهو وقود أكثر نظافة من النفط. كان هذا هو السبب المنطقي وراء استحواذ شل على شركة الغاز الطبيعي BG Group بقيمة 53 مليار دولار في عام 2016، مما جعل شل ثاني أكبر شركة للطاقة في العالم. لا تزال العديد من شركات النفط الكبرى تأمل في أن توفر تقنيات للتعامل مع الكربون شريان الحياة لعمليات الاستخراج الخاصة بهم، من خلال الوقود الحيوي، الذي يتم خلطه عادةً بالوقود البترولي، وما يسمى بالهيدروجين الأزرق، وهو مصنوع من الغاز الطبيعي باستخدام عمليات احتجاز الكربون، تلوح في الأفق بشكل كبير في العديد من استراتيجيات الشركات هذه.
لكن في أوروبا، على الأقل، تتجه شركات النفط الكبرى بشكل متزايد لتجاوز الوقود الأحفوري، فقد أعلنت شركة شل أنها تريد أن تصبح أكبر شركة كهرباء في العالم بحلول عام 2030. وفي تموز 2020، فازت بمزاد كبير لبناء مزرعة رياح بحرية في هولندا، بدون دعم. استحوذت “توتال” على شركة كبرى لتصنيع البطاريات، وهي Saft، بالإضافة إلى شركات المرافق الكهربائية في بلجيكا وإسبانيا. وفي وقت سابق من عام 2020، أعلنت أيضاً عن استثمارات كبيرة في الطاقة الشمسية في إسبانيا ومزرعة رياح قبالة اسكتلندا. كما قامت توتال وشل وبي بي أيضاً بتوسيع البنية التحتية لشحن المركبات الكهربائية.
بالنظر إلى المستقبل، تخطط شركات النفط الأوروبية الكبرى للاستمرار في هذا المسار، وزيادة إنفاقها على مصادر جديدة للطاقة المتجددة. إذ تريد توتال، على سبيل المثال، الحصول على طاقة كهربائية منخفضة الكربون تبلغ 25 غيغاوات بحلول عام 2025. وتخطط شل لإنفاق ما يقرب من 10 في المائة من نفقاتها الرأسمالية على أنواع الوقود والطاقة الجديدة – مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والوقود الحيوي وغيرها من المشاريع منخفضة الكربون – بحلول عام 2025، بينما تكرس Equinor 15 إلى 20 في المائة من النفقات الرأسمالية لوحدة “حلول الطاقة الجديدة” الخاصة بها بحلول عام 2030، والتي تعمل في مجال الرياح البحرية، وتكنولوجيا التقاط الكربون وتخزينه وغيرها من الحلول منخفضة الكربون السؤال الرئيسي هو ما إذا كان كل هذا سيكون كافياً لدفع كبار النفط Big Oil إلى مواقع بارزة في اقتصاد الطاقة الجديد هذا، حيث تدخل في منافسة مع لاعبين معروفين.
من المؤكد أن كبرى شركات النفط في أوروبا تخطط لزيادة الإنفاق على مصادر الطاقة المتجددة وأسواق الطاقة المستدامة بحلول عام 2025، ولكن مجموع نفقاتها المخطط لها ما يزال أدنى من خطط الإنفاق للاعبين الحاليين في قطاع الطاقة المتجددة. تهدف شركة Iberdrola، وهي مرفق إسباني وأكبر منتج لطاقة الرياح في العالم، إلى إنفاق 88 مليار دولار على الطاقة المتجددة بحلول عام 2025. ولدى شركة Enel الإيطالية خطتها الخاصة لإنفاق 83 مليار دولار على مصادر الطاقة المتجددة خلال العقد المقبل. وإلى جانب Iberdrola و Enel هناك شركة RWE الألمانية وشركة NextEra Energy Inc في كاليفورنيا، والتي تعد من بين مجموعة ناشئة لما يمكن تسميته “شركات الطاقة النظيفة” الجديدة، أكبر مطوري مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية في العالم خارج الصين. إن أبطال المناخ هؤلاء في وضع جيد للاستفادة من ثورة الطاقة الخضراء في الاتحاد الأوروبي وفي الأسواق الأخرى التي حددت أهدافاً صافية صفرية. قد يكون هناك بعض الاندماج في هذا القطاع، والذي قد يشهد صعود شركة عملاقة متجددة حقاً. هذا لا يعني أن الإصلاح غير مجد لشركات النفط الكبرى، فأولئك الذين شرعوا في خطط طموحة لإزالة الكربون يتطلعون في الغالب إلى Orsted الدنماركية كمثال ساطع للتحول المؤسسي الناجح. لقد ولدت Orsted من شركة النفط والغاز الطبيعي الدانماركية، وهي اليوم شركة مرافق تعتمد مصادر الطاقة المتجددة ومطور طاقة الرياح البحرية الرائد في أوروبا.
بدأت سلسلة الأحداث التي أدت إلى هذا التحول الملحوظ بإعلانها عن إستراتيجية مؤسسية جديدة في عام 2013. وبعد التخلص من جميع أنشطتها المتعلقة بالوقود الأحفوري، غيرت الشركة اسمها في عام 2017. وقد أتى التحول بثماره من حيث قيمة الشركة، التي تضاعفت أكثر من أربع مرات في السنوات الثلاث الماضية وهي الآن أعلى من شركة بريتيش بتروليوم وغيرها من عمالقة النفط.
ثالوث المستحيل
تواجه شركات النفط الكبرى الآن ثلاث مهام صعبة قد تشكل ثالوثاً مستحيلاً. أولاً، تحتاج هذه الشركات إلى الاستثمار في أعمالها الأساسية في إنتاج النفط والغاز، لأن هذا الاستثمار سيؤمن التدفق النقدي الضروري لجعل اقتصاد الطاقة الجديد الذي يعتمد بشكل أقل وأقل على الوقود الأحفوري محوراً لها . ثانياً، يتعين عليها الاستعداد لمستقبل خالٍ من الكربون من خلال تنويع أنشطتها في مجالات جديدة مثل مصادر الطاقة المتجددة، وطاقة الهيدروجين، والبنية التحتية لشحن المركبات الكهربائية، وما إلى ذلك. ثالثاً، يتعين عليها القيام بكل هذا مع الحفاظ على الأرباح المرتفعة التي تطلبها مجالسها ومساهموها. هذا أمر بالغ الأهمية لأن أسهم شركات النفط الكبرى تتراجع بشكل متزايد عن أولويات المستثمرين.
ابتعد المستثمرون عن النفط والغاز نحو آفاق أكثر إثارة، ولكن غالباً ما تكون أقل خطورة – مثل أسهم تكنولوجيا الطاقة النظيفة في Tesla و NextEra Energy – فقد شهدت شركات النفط والغاز زيادة في “تكلفة رأس المال”، تماماً لأن قطاعات الطاقة المتجددة تحصل على إمكانية الوصول إلى أموال أرخص من أي وقت مضى. وهذا يضع أمثال BP و Shell و Repsol في وضع غير مؤات مقارنة بالمرافق المتجددة.
بالطبع، تتمتع شركات النفط بنقاط قوة خاصة، إذ يمكنها التباهي بمهاراتها الهندسية عندما يتعلق الأمر بالعمليات البحرية والحفر، والتي قد تكون مفيدة لمزارع الرياح والطاقة الحرارية الأرضية، على التوالي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لشبكاتها الواسعة من محطات الوقود أن تقدم خدمات مثل البنية التحتية السهلة لشحن السيارات الكهربائية، في حين إن مكاتب التداول الخاصة بها يمكنها شراء مجموعة واسعة من عقود الطاقة الآجلة. فهل سيكون كافياً لإنقاذ Big Oil من مصير Kodak لا بد من الانتظار للحصول على إجابة.
يظهر تاريخ أورستد أن التحول ممكن، وقد تبنى العديد من شركات النفط الكبرى، على الأقل من الناحية الخطابية، التغيير. ومع ذلك، لا تزال هذه الصناعة تتمتع بسجل غير مكتمل عندما يتعلق الأمر بالوفاء بطموحاتها الخضراء. في مطلع الألفية، أعادت شركة BP تسمية علامتها التجارية “ما وراء البترول”، في محاولة لبيع نفسها على أنها شركة طاقة أوسع، وليس مجرد مشروع نفطي. بعد عقدين من الزمان، لم تثبت بعد أنها في طريقها إلى التحول، ناهيك عن الحفاظ على أرباحها على مدى طويل.