إستراتيجية جو بايدن واستحقاقات المرحلة المقبلة
ريا خوري
بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية وتتويج جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وما تخلّل تلك المرحلة من استحقاقات وتداعيات سلبية، تبدأ مرحلة جديدة يمكن أن يطلق عليها مرحلة المواجهة للعديد من المعضلات والمشكلات الصعبة التي استعصت على الحل، وتعاني منها الولايات المتحدة، وهي كثيرة تكاد لا تُحصى.
في طريقه إلى البيت الأبيض بعد تنصيبه مباشرة، غرّد الرئيس بايدن على تويتر مؤكداً أنه لا وقت نضيّعه عندما يتعلّق الأمر بمواجهة الأزمات المستعصية التي نواجهها. وهكذا فقد بدأت قراراته بالصدور من البيت الأبيض على التوالي، محاولاً إزالة إرث الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو إرث ثقيل، فقد وقّع ١٥ أمراً رئاسياً للتخلّص من تبعات السياسات البراغماتية التي قام بها سلفه.
وعلى الرغم من أهمية الأوامر الرئاسية التي وقّعها، كان هناك أمر رئاسي مهمّ هو إقرار سلسلة من الإجراءات الضرورية لمواجهة فيروس كورونا. كما شملت تلك الأوامر قضايا إستراتيجية مهمّة، من ضمنها العودة للانضمام لاتفاق باريس للتغيير المناخي، وتحقيق المساواة بين المواطنين الأمريكيين بمختلف أعراقهم وأثنياتهم وأديانهم، وإلغاء قرار ترامب بمنع مواطني العديد من الدول الإسلامية من دخول الولايات المتحدة. كما ألغى تمويل بناء الجدار العنصري على حدود المكسيك، إستراتيجية هدفها بالدرجة الأولى إعادة حضور الولايات المتحدة العالمي وبشكل خاص في القارة الأوروبية، وإعادة الاعتبار للعولمة، واعتماد سياسة الانفتاح الاقتصادي.
وفي هذا الصدد يتساءل البعض: هل ستتكفل سياسة بايدن الجديدة بحلّ جميع المشكلات المستعصية والمعضلات التي تواجه الولايات المتحدة وتعيد الاعتبار لحضورها على المسرح العالمي؟.
هذا التساؤل يحمل معنى متضمناً هدفه تحميل ترامب مسؤولية قراراته التي أدّت إلى كل هذا الخراب وتراجع موقع الولايات المتحدة في السياسة الدولية، وبالتالي موقعها في صراع القوى العظمى على الصعيد الدولي، وهو قول لا تؤيده الوقائع ولا تدعمه، فتراجع الولايات المتحدة في موازين القوى العالمية ليس من صنع ترامب، بل هو نتاج تراكمات طويلة زمنياً، وصعود تكتلات وقوى دولية جديدة بدأت بالإفصاح عن نفسها مع بداية القرن الحادي والعشرين. فقد أشار كبار المفكرين الأمريكيين، أمثال هنري كيسنجر وصاموئيل هنتغتون، إلى نهاية الأحادية القطبية، كما أشار المفكر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما إلى نهاية التاريخ. وجميعهم بشّروا باقتراب نهاية الأحادية القطبية وظهور أقطاب دولية جديدة تنافس الولايات المتحدة في موازين القوى الاقتصادية.
في الحقيقة كان الجميع يراقب التطورات بدقة منذ بداية القرن ٢١، الذي أشارت الكثير من أحداثه واستحقاقاته واستتباعاته إلى أنّ هناك خطاً بيانياً متصاعداً بشكلٍ متسارع للقوة الاقتصادية الصينية، يقابله خط بياني منحدر لنظيرتها الولايات المتحدة، وأنّ كل السياسات التي تبنتها إدارات الولايات المتحدة المختلفة لم تستطع أن تلغي قانون الدورة التاريخية، التي تؤكّد ما يردّده المتصوفون بأنه “ليس بعد الكمال والاكتمال سوى النقصان”.
حجم المشكلات المعقّدة والمستعصية التي تواجه إدارة بايدن، والتي من أهمها انقسام المجتمع الأمريكي، فالعنصر البشري الأبيض الذي سيطر على مقاليد الحكم والثروة أكثر من أربعمائة سنة لن يقبل بسهولة التخلي عن مواقعه السياسية والاقتصادية لمصلحة إثنيات وأعراق أخرى. وربما يفسّر ذلك كيف أن خمسة وسبعين مليون أمريكي قد منحوا أصواتهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لترامب، على الرغم من فشله بمعالجة الانهيارات التي تسبّبت بها جائحة كورونا!.
وإذا ما تمكّن بايدن من الحصول على موافقة الكونغرس ومجلس الشيوخ، لإعفاء أحد عشر مليون مهاجر، ومنحهم الجنسية الأمريكية، فإنّ ذلك سيوسّع بالتأكيد الفارق الديموغرافي بين المواطنين البيض والمكونات العرقية والإثنية الأخرى، ويضاعف من حدّة الانقسام داخل المجتمع الأمريكي. والمعضلة المستعصية لا تختزل هنا، في صراع بين المكونات الاجتماعية الإثنية الأمريكية، فحسب، بل هي أزمة سياسية وبنيوية خطيرة بكل المقاييس. فالخلل الديموغرافي لمصلحة المكونات الاجتماعية الإثنية من غير الجنس الأبيض يعني تراجع نفوذ الحزب الجمهوري داخل الولايات المتحدة، وعدم قدرته بالحصول على الأغلبية الواسعة من أصوات الناخبين للأبد. يضاف إلى ذلك تلويح ترامب بتأسيس حزب جديد- سيأخذ حصة كبيرة من نصيب الحزب الجمهوري- يمهد لحدوث انشقاق داخل الحزب، بما يجعل من الحزب الديمقراطي الحزب الأقوى، ومن غير منازع على الإطلاق.
هذا الواقع السياسي الجديد والذي تطوّر بشكل متسارع في الولايات المتحدة، يعني فيما يعنيه، أن النظام الديمقراطي الذي ينصّ عليه الدستور، حيث تداول السلطة، سيكون مغيّباً إلى حين ظهور حقائق أخرى.
في المقابل، هناك حزب قويّ، كما أشرنا أعلاه، لكنّه مترهل إلى حدّ كبير، حيث يضمّ بين صفوفه أعضاء من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهو تحالف هشّ مهدّد بالتفكك والتشتّت، وربما يكون تفكّكه هو المدخل العقلاني لإنقاذ الديمقراطية، بنسختها الأمريكية، لكنّ ذلك لا يبدو متاحاً في الوقت القريب.