بايدن ومقاربته للملف النووي الإيراني
محمد نادر العمري
كثيرة هي الملفات الحساسة والتحديات الخطيرة إلى جانب نظيرتها الداخلية الجمة التي تنتظر إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن على صعيد السياسة الخارجية، في مقدمتها الخلاف الاستراتيجي غير المسبوق مع الصين وروسيا فيما يخص سباق التسلّح أو التنافس الاقتصادي، إضافة إلى ملف إعادة ترميم ثقة الحلفاء بواشنطن، التي نجح ترامب في وضعها بأدنى مرتبة في تاريخ علاقات الأمريكيين مع الخارج، وتحديداً مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فالعلاقة مع روسيا، وطبيعة التنافس الدولي، والسعي للحفاظ على مكانة وهيبة أمريكا، والخلاف التجاري مع الصين، وموقف أمريكا من تحالفاتها، وعلاقاتها الجيوسياسية التي تعرّضت لانتكاسات حقيقية في عهد ترامب، فضلاً عن مستقبل قواعدها وانتشارها العسكري، وعضويتها في المنظمات والاتفاقات التي انسحب منها أخيراً، لاسيما اتفاق باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، هي من أبرز التحديات الخارجية أمام إدارة الديمقراطيين.
الملفات المذكورة مهمة، وتنتظر إدارة بايدن للمعالجة، ولكن يبدو أن هناك ملفاً حساساً بشكل استثنائي بدأ يتقدم على غيره من الملفات مع نهاية حقبة ترامب، ولا شك هو مؤثر بنسبة كبيرة في الكثير من الملفات المذكورة أعلاه، وهو ملف الاتفاق النووي مع إيران، الذي ثبت مع المسار الذي سلكه ترامب أنه أساسي في تكوين المنظومة السياسية العالمية المرتبطة بأسس التعهدات والاتفاقيات تحت رعاية الأمم المتحدة، وضرورة احترامها والالتزام بها كنقطة ارتكاز لما يسمى القوانين الدولية والأعراف والعلاقات المتوازنة بين الشعوب والأمم، حيث يعتبر الموقف من الملف النووي الإيراني، وكيفية التعامل، والعلاقة مع إيران، من أبرز الملفات التي تنتظر الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، في ظل وجود طوق من القيود وضعتها إدارة ترامب، والتحدي الذي سيكون بايدن أمامه متمثّل بالمقاربة التالية: “إجماع شبه مطلق من قبل معظم النخب السياسية الأمريكية، بما في ذلك أعضاء الكونغرس لمنع إيران من تطوير قدراتها، مع اختلاف الطرق ووسائل مواجهتها، في مقابل تأثير الرئيس الأسبق باراك أوباما على الرئيس الجديد، واعتبار اتفاق 5+1 أحد إنجازات أوباما التي كان بايدن جزءاً منها عندما كان يتولى منصب نائب الرئيس، ولابد من العودة إليه”.
هذه المقاربة قد تشكّل نقطة خلاف ليس فقط بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل داخل الصف الديمقراطي وإدارة بايدن بحد ذاتها، وبرز ذلك في تصريحين وإشارتين متناقضتين: الأولى عندما أكد بايدن استعداده للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران بقوله: “سيكون الأمر صعباً، لكن نعم”، والثاني كلام مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان الذي جاء بمثابة نقطة تحول في غاية الأهمية والدلالات، في مقدمتها بداية التناقض قبل بدء الحقبة الرئاسية داخل إدارة بايدن، إذ قال: “إن إدارة بايدن ليست ضد العودة إلى الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع مجموعة 5+1، لكن الصواريخ يجب أن تكون على الطاولة”.
سيناريوهات التعامل الأمريكي مع الملف النووي الإيراني
السيناريو الأول: يتمثّل في إقدام الرئيس الجديد على العودة للاتفاق النووي مع إيران وفق الصيغة السابقة، وهو ما يمكن البناء عليه من خلال المؤشرات التالية:
– تصريح الرئيس الجديد أثناء حملته الانتخابية وبعدها بأنه سيعود للاتفاق النووي.
– تأثير الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما على قرارات بايدن فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وبخاصة إيران، لاسيما أن هناك شبه إجماع من قبل المتابعين للشأن الأمريكي يؤكد على وصف مرحلة بايدن بأنها ولاية أوباما الثالثة، وهو الرئيس الذي توصل للاتفاق مع الإيرانيين، ويريد الحفاظ عليه، ويعتبره من أهم إنجازاته الخارجية.
– حاجة الرئيس الجديد لإنجاز خارجي يمكن أن يحسن من مكانته في الداخل الأمريكي، ويخفف من وتيرة الصراعات الخارجية للتفرغ نحو معالجة إشكاليات الداخل.
السيناريو الثاني: أن يناور بايدن بين الشروط التي وضعها الرئيس دونالد ترامب، وفرض شروط جديدة، والقيام بمناورة لكسب الوقت أولاً، وخضوعه للضغط من قبل اللوبي الإسرائيلي أو المثلث المتمثّل بالأخير والحكومة الإسرائيلية وأنظمة الخليج، وهذا ما يفسر طرح بايدن الجديد في تصريحه لصحيفة “نيويورك تايمز” بقوله إنه يريد توسيع الاتفاق النووي ليشمل الدول المجاورة لطهران، كالسعودية والإمارات، وسرعان ما كان الرد الإيراني حاضراً بأن لا علاقة لأي طرف بالاتفاق النووي، ومن يتجرأ من الدول المطبعة مع الكيان الصهيوني، ويطرح نفسه لاعباً جديداً على طاولة بايدن المرتقبة للاتفاق النووي: “عليه أن يتحدث على قدر حجمه”.
ويمكن أن يستند هذا السيناريو إلى عدة مقومات:
أولاً: عندما تم توقيع اتفاق 5+1 في صيغته السابقة عام 2015، كان ضمن مشروع أمريكي يهدف إلى تحويل موقف إيران وإعادتها لزمن الشاه بشكل تدريجي، واليوم الهدف الأمريكي هو الإبقاء والحفاظ على النفوذ الأمريكي في المنطقة بأمان.
ثانياً: لا يريد بايدن التوسع في المشاحنات السياسية مع الجمهوريين الذين قد يعتبرون ذهابه للاتفاق في صيغته السابقة تنازلاً لإيران وصفعة لترامب وللجمهوريين، وسيستغلون ذلك للضغط عليه في الكونغرس، وربما في مظاهرات فوضوية في الشارع، أو عبر تكرار سيناريو الكابيتول.
ثالثاً: قد يراهن بايدن على عامل الوقت في محاولة كي تأتي العقوبات والحصار بنتائج، وأن يقوم بتوزيع الأدوار بين فريقه الرئاسي للمناورة، ورفع سقف المطالب وتنويعها، كما هو الحال في إضافته لدول الجوار ضمن صيغة الاتفاق التي قد يكون أحد أهدافها إدخال “إسرائيل” في الاتفاق، وربط مستشار أمنه القومي بين العودة للاتفاق والبرنامج الصاروخي الإيراني.
السيناريو الثالث: يكمن في منتصف الطريق، بمعنى آخر لن تكون هناك عودة للاتفاق بالصيغة السابقة، ولكن في الوقت ذاته لن تكون هناك صلابة من بايدن، كما هو حال موقف ترامب، ووضع شروط جديدة، ورفع سقف المطالب هدفه تحسين الموقع التفاوضي فقط، أي التوصل لاتفاق يستند إلى الاتفاق السابق، مع احتمال إدخال تعديلات ثانوية أو شكلية، وهذا يستند إلى:
– بايدن يريد تقديم نفسه بأنه الرئيس المنتخب الذي سيعيد وضع أمريكا في مسارها الصحيح.
– إدراك بايدن أن العودة للاتفاق السابق ربما يواجه رفضاً من الكونغرس الأمريكي بغالبية حزبيه. وبالإضافة لموقف الجمهوريين، يوجد بعض الصقور من الديمقراطيين الذين يرفضون أي اتفاق مع إيران، لأن ذلك من منظورهم يزيد قوة إيران، ويوسع من نفوذها، وفق زعمهم.
بكل الأحوال التحديات في انتظار بايدن كبيرة على صعيد الأوضاع الداخلية التي ستشكّل معظم اهتمام إدارته خلال الأشهر الستة الأولى من ولايته، ولن يكون هناك تحريك للمياه الراكدة في الملفات الحساسة، بما فيها الملف النووي الإيراني، قبل انقضاء ستة إلى اثني عشر شهراً، لكن المؤكد أن الملف النووي الإيراني من أولويات بايدن، وجميع السيناريوهات مازالت مفتوحة.