البيوت الدمشقية.. ثروة مهمة وقيمة معمارية
تذكّر الباحث د. أنس تللو في اللقاء الذي جمعه مع الباحثة إلهام محفوظ والذي عُقد مؤخراً في المركز الثقافي في كفر سوسة للحديث عن البيوت الدمشقية حكيماً قال: إن الله حين خلق الكون وقسم الجمال نصفين، أعطى النصف الأول لمدينة دمشق، ووزع النصف الثاني على باقي أنحاء الأرض، ورأى أن جمال دمشق يكمن في البيت التراثي الدمشقي، القصر في مساحته، والرائع في تصميمه، إذ يكمن فيه السحر، والسر والمسرة في غرفه عالية السقوف، المزينة بالخشب الملون والزخارف الهندسية أو النباتية ونوافذه وأبوابه وإيوانه وبِركة مائه وأشجار النارنج والليمون والياسمين والزهور فيه، مؤكداً أننا إذا أردنا أن نرى هذا كلَّه ونتمتّع به يكفي أن نذهبَ إلى بيتٍ دمشقي عريق هو مكتب عنبر، ذلك المكان الذي تجتمع فيه فنونُ العمارةِ الدمشقيةِ بآياتها البديعة، وهو بيتٌ لا كالبيوت، يبلغ سحرُه حدَّ الذهول، وهو خيرُ مثالٍ على براعةِ العمارةِ القديمةِ بتزييناتها البديعة وزخارفِها الممتعة وألوانها الزاهية، وهو بيتٌ دمشقيٌ قديم، أشبه بمتحف لعرض فنون العمارة العربية، تتسابق غرفه وأرجاؤه في التباهي بالتنسيق الفريد الذي تتحلى به، مبيناً أن مكتب عنبر الذي يقع في شارع مدحت باشا الذي يصل بين باب الجابية والباب الشرقي كان الثانوية الوحيدة في سورية كلها، وكان الطلاب يأتون إليه من كل مكان ليكملوا دراستهم، وتعاقب عليه آلاف من الطلاب وتمّ افتتاحه عام 1887 وكان اسمه مكتب إعدادية ملكية وكانت الدراسةُ فيه تصل إلى الصف التاسع فقط، وعندما بدأ زعماءُ الاتحاد والترقي في استانبول بسياسة التتريك أصبحت اللغةُ التركيةُ اللغةَ الرسميةَ في جميع دوائر الدولة، واكتملت صفوف المكتب إلى الصف الحادي عشر، فغدا ثانوية كاملة وأصبح اسمه سلطاني مكتبي وصار جهازُه الإداري وجميعُ أساتذته من الأتراك، وبعد جلاء السلطة التركية عاد الوجهُ العربيُّ إلى البلاد وأُطلِقَ على مكتب عنبر اسم مدرسة التجهيز ودار المعلمين، وتم اختيارُ أساتذةٍ عرب للتدريس فيه، فقاموا بإذكاء الروح العربية وبعثِ التراثِ العربي في صفوف طلابه، أما في عهد الاحتلال الفرنسي فقد كان لمكتب عنبر الفضلُ الأكبرُ في بث الروح الوطنية في صفوف المواطنين السوريين، وفي العام 1935 انتقت وزارة المعارف مجموعةً من المعلمين المؤقتين الحائزين على شهادة البكالوريا الثانية لتأهيلهم كمعلمين اختصاصيين، فأُحدث فيه صف التعليم العالي، وفي العام نفسه تـمَّ إنجازُ بناء مدرسة التجهيز الحالية، فانتقل طلابه وأساتذته في العام الدراسي 1936-1937 إلى البناء الجديد المعروف حالياً بالتجهيز، ثم سُميَّت مدرسة التجهيز باسم عالِم من علماء الرياضيات فيه، فأصبح اسمها ثانوية جودة الهاشمي، ثم وبعد الاستقلال أصبح مكتب عنبر لعدّة سنوات مقرَّاً لمعهد التجهيز والفنون النسوية، ثم أصبح بناء مكتب عنبر قصراً للثقافة الشعبية، وقامت وزارة الثقافة بمساعدة محافظة دمشق بإجراء ترميمات وإصلاحات واسعة عليه مما أعاد له رونقه وبهاءه، فأصبح يتباهى اليوم بحلته القشيبة وفخامته، وغدا متعة للناظرين.
معلمو مكتب عنبر
ولا يمكن الحديث عن مكتب عنبر دون ذكر أسماء الأساتذة العظماء الذين علموا فيه، فأشار تللو إلى بعضهم كأستاذ اللغة العربية سليم الجندي الذي قيل عنه إنه لا يوجد تحت أديم السماء أعلم منه بالعربية وعلومها، وعبد القادر المبارك الذي كان أعلم أهل زمانه بالقواميس، والشاعر محمد البزم ومسلم عناية أستاذ الرياضيات المشهور الذي كان يتقن الفرنسية والألمانية والإنكليزية والتركية والفارسية والعربية، وكان موسيقياً بارعاً، ومحمد الداوودي عالمُ النحو والصرف، وأبو الخير القواس أستاذ العربية الصارم الذي عُرف بعبارته المشهورة “من يخطئ في إعراب كلمة واحدة لا يحق له النجاح في البكالوريا”.
أوابد تاريخية
وأشارت إلهام محفوض الباحثة في التاريخ وأمينة متحف الخط العربي في دمشق إلى خصوصية سورية الحضارية بما تملكه من أوابد ومعالم تاريخية وأثرية، فمن سورية بدأ كل شيء، ودمشق جدة المدن ما فتئت تستهوي الأدباء والمفكرين والمؤرخين من أقدم العصور إلى يومنا هذا لخصوصيتها، فهي صوت التاريخ ومعرض الفنون، ولعلّ البيوت الدمشقية برأيها هي غيض من فيض ما تتمتع به دمشق التاريخ والحضارة، مؤكدة أن بعض هذه البيوت تُعتبر ثروة مهمّة وقيمة معمارية وفنية دفعت المديرية العامة للآثار والمتاحف إلى تسجيل عدد منها ضمن المباني الأثرية للحفاظ عليها وترميمها واستثمارها، مثل بيت نظام ومكتب عنبر وبيت المجلد والسقا والعقاد وخالد العظم، ملقية الضوء على أقسام البيت الدمشقي وما يتضمنه من جماليات وجمال الباحة في البيت الدمشقي، فهي كالفردوس بجمالها وبأشجار النارنج والكباد ووردها الجوري وياسمينها الفواح، موضحة أن دمشق ارتبطت ببيوتها الأصيلة وبياسمينها وبوردها الذي ذكره شكسبير في إحدى مسرحياته. وأشارت محفوض إلى بيت العقاد الذي كان لها شرف الإشراف على ترميمه وتدريب الفريق السوري بالتعاون مع خبراء من المتحف، وأصبح المركز الثقافي الدانماركي، وهو يضمّ قاعات بديعة وزخارف مميزة على الحجر والخشب، وبيت خالد العظم الذي أصبح متحف بيت التراث الدمشقي وهو من أجمل البيوت خارج سور مدينة دمشق القديمة وأقيمت فيه أول ندوة دولية عن تاريخ مدينة دمشق عام 1980 ويضمّ ست قاعات، ولكل قاعة ميزاتها من حيث الزخارف والأقسام الداخلية، دليل على الذائقة الجمالية للمعماري والفني السوري، منوهة بوجود قاعة دمشقية مزخرفة في نيويورك وتوجد أيضاً قاعة مزخرفة ببرلين، وهذا دليل على أن الفن السوري استطاع أن يصل لأصقاع العالم، ولذلك رأت أنه يجب أن نفخر بدمشق بما تملكه، وعلينا أن نكون بارين لها بالحفاظ على ما تبقى من روائع معمارية وفنية فيها.
يُذكر أن محفوض استلمت إدارة متحف بيت التراث الدمشقي “بيت خالد العظم” وقامت بتصميم بروشور عنه بالانكليزية والفرنسية، كما اشتغلت في بيت العقاد لمدة سنتين وتمّ إيفادها إلى الدانمارك ونالت شهادات خبرة لإشرافها على أعمال الترميم فيه من قبل المتحف الوطني الدانماركي.
أمينة عباس