كيف تعيد روسيا والصين تشكيل جنوب القوقاز؟
سمر سامي السمارة
أرست النتيجة التفاوضية التي توسّطت فيها روسيا لنزاع ناغورنو كاراباخ، الأساس لتحوّل جيوسياسي كبير في جنوب القوقاز، وقد جعلها الدور الذي لعبته في إنهاء الصراع العسكري وإيقاف إطلاق النار مسؤولةً عن جنوب القوقاز. سمح ذلك لروسيا بتقويض قدرة الولايات المتحدة على استخدام هذه المنطقة وإضرام النار في محيطها بهدف تهيئة الظروف لتوسيع الناتو باتجاه الشرق، كما تعتبر السيطرة على المنطقة أمراً بالغ الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة، لأنها برزت كواحدة من أنسب الطرق لتوسيع مبادرة الحزام والطريق الصينية إلى أوروبا. فالولايات المتحدة، من خلال ترسيخ مكانتها هنا، تريد السيطرة على شريان مهمّ من مبادرة الحزام والطريق، إلاّ أن جنوب القوقاز، تحت تأثير النفوذ السياسي الروسي والاستثمار الاقتصادي الصيني، يتحوّل بسرعة إلى إقليم يبعد أميالاً عن متناول مخالب الولايات المتحدة.
تُظهر أحدث بيانات البنك الدولي، أن البصمة الاقتصادية للصين قد ازدادت بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية، وهناك يقين على نطاق واسع، أن أذربيجان حلقة وصل مهمّة في طرق الحرير الجديدة التي تربط الصين بأوروبا، فمنذ عام 2005، ازداد حجم التبادل التجاري الصيني مع أرمينيا وأذربيجان وجورجيا بنحو 2070% و380% و1885% تباعاً.
تتمتّع أذربيجان بأهمية خاصة بالنسبة للممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا، ولاسيما طريق النقل الذي يمرّ في القوقاز ويربط الصين بأوروبا عبر شبكة من السكك الحديدية والموانئ والطرق وخطوط الأنابيب المحتملة.
على الرغم من أن حجم التجارة الحالي بين الصين وأذربيجان ليس كبيراً، تُظهر التوجهات الأخيرة قفزة تصاعدية مهمّة، فبحسب بيانات البنك الدولي، بلغ حجم التجارة بين البلدين 1.3 مليار دولار أمريكي في عام 2018، أي 6% من إجمالي تجارة أذربيجان تقريباً، ونصف هذه الكمية في عام 2013، ويقدّر البنك الدولي أن مبادرة الحزام والطريق يمكن أن تحوّل القدرة الجغرافية الاقتصادية لأذربيجان، وأن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد يمكن أن يزيد بنسبة 21% على المدى الطويل، ويمكن أن تساعد مشاركة أذربيجان في مبادرة الحزام والطريق بالاستفادة من سلاسل القيمة العالمية وتنويع اقتصادها.
تعمل الصين على تطوير طريق تجاري عبر كازاخستان يعبر بحر قزوين من ميناء أكتاو الكازاخستاني إلى باكو، وبدورهم وصف الباحثون الصينيون هذا الطريق بأنه محور لمبادرة الحزام والطريق وذو أهمية كبيرة في نجاح الصفقة التي وقعتها مع الاتحاد الأوروبي.
يرتبط توليد الفرص التجارية، التي تقدّمها الصين أيضاً بخطط روسيا لإيجاد جغرافيا جديدة للتجارة تشمل أذربيجان وأرمينيا، وقد بدا ذلك جلياً أثناء الاجتماع الأخير بين القادة الروس والأذريين والأرمن في موسكو، فقد أعقب الاجتماع إعلان عن تنفيذ “تدابير تشمل ترميم وبناء مرافق جديدة للبنية التحتية للنقل، ضرورية، لتنظيم وتنفيذ وتأمين حركة المرور الدولية التي تتمّ عبر أذربيجان وأرمينيا، إضافة إلى خدمات النقل التي تمّ تنفيذها من قبل أذربيجان وأرمينيا، وتتطلّب عبور أراضي البلدين”. إذن، الخطة، كما تبدو، هي إعادة تنشيط “طرق الحرير القوقازية” القديمة التي من شأنها أن تسمح للدول الكبرى في المنطقة الاتصال بروسيا، وفتح طرق لتعزيز التجارة، وبالتالي لا تترك أي مجال للقوى من خارج المنطقة مثل الولايات المتحدة، وفرنسا للعب سياسة “فرّق تسد” القديمة.
كما تشير هذه التطورات إلى انحسار الوجود والدور الأمريكي في المنطقة، لكن من المرجح أن تنظم الولايات المتحدة، في ظل إدارة بايدن، التي يهيمن عليها الليبراليون الذين يناصرون التدخل، شؤونها الداخلية وتحاول العودة بأي شكل.
في الواقع، تقوم الولايات المتحدة بالفعل بإجراء حسابات العودة، فقد سمح الكونغرس الأمريكي مؤخراً، لمدير الاستخبارات الوطنية بتقديم تقرير يحدّد المصالح الإستراتيجية الأمريكية الأساسية في المنطقة، بما في ذلك المساعدة العسكرية الأمريكية لكلّ من أذربيجان وأرمينيا وكيف يمكن استخدام ذلك بشكل فعّال لخدمة المصالح الأمريكية.
في ظل الظروف الحالية، تستعد واشنطن بالفعل لصراع جيوسياسي في المنطقة حول ناغورنو كاراباخ، ففي تشرين الأول 2020، حثّ رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي “آدم شيف” الولايات المتحدة على الاعتراف بناغورنو كاراباخ أو “جمهورية أرتساخ” كدولة مستقلة. تعكس هذه الدعوة للاعتراف بـ”دولة مستقلة” طريقة الولايات المتحدة في إقحام نفسها في المنطقة لتلعب سياساتها المعتادة الساعية للانقسام.
ومع ذلك، يبدو أن هناك الكثير من سياسات الاتصال التي يجري التخطيط لها وتنفيذها لمواجهة سياسات الانقسام التي تستعد لها الولايات المتحدة، لذلك، فإن الاتفاقات السياسية والاقتصادية التي يتمّ إبرامها وتنفيذها ستقلّل بشكل كبير من مساحة الصراع من أجل الظهور مرة أخرى وزعزعة الاستقرار في المنطقة.