ليست هدية لدمشق!
أحمد حسن
كما هو الحال مع بداية عمل كل إدارة جديدة، هذا أوان المراجعات -أو “دعواتها” على وجه الدقة- في السياسة الأمريكية. وكما هو الحال أيضاً في كل مرة سابقة، بعض هذه الدعوات ينجم عن اقتناع أيديولوجي شامل. بعضها الآخر: مصلحي حزبي ضيق، أي نكاية بالحزب والإدارة السابقين، فيما بعضها الثالث ليس أكثر من بحث حثيث عن مكان ودور شخصي في عالم واشنطن السياسي.
أدلة المراجعة عدّة، الإسراع في العودة إلى بعض الاتفاقيات الدولية مثال أول. تعيين روبرت مالي، بما ومن يمثّل، مبعوثاً خاصاً لإيران مثال ثان. فيما المطالبة بمراجعة العقوبات الأمريكية على دمشق لم تتجاوز مرحلة الدعوة حتى الآن.
لكن في الحالات السابقة، وما يشابهها، يجدر بنا التدقيق والانتباه، لأن ما يحدث هو مراجعة لأدوات، وشكل، السياسات المعتمدة وليس جوهرها. بمعنى آخر هو مجرد بحث بوسائل وأدوات جديدة عن المصلحة الأمريكية ذاتها بعد أن أدت الوسائل القديمة دورها كاملاً، أو ثبت عقمها. في العقل الأمريكي هذا يعني ضرورة فسح المجال أمام الشرطي الجيد للظهور، يمثّله “بايدن” هنا، على حساب الشرطي السيئ الذي مثّله “ترامب”، لكن “الجديد” يبني، وكالعادة، على إجراءات “القديم” وقسوته ليحصل على المراد ذاته. بالمحصلة، نكتشف لاحقاً، وكما في كل مرة، أنهما سواء.
في الحالة السورية مثلاً يعلن دعاة المراجعة إنها “ليست هدية لدمشق”!!.. بل هي شكل من أشكال اختبار “ممارسة نوع مختلف من الضغط على سورية” لتحقيق النتائج المطلوبة سابقاً ذاتها.
وعلى غرار أفلام “هوليوود” الشهيرة حيث ثنائية الخير والشر البسيطة والبطل الأمريكي الخارق الذي يحمل على عاتقه همّ الجانب الأول طبعاً، تتصف المصلحة الأمريكية من المراجعة -على لسان دعاتها- بنمط إنساني طوباوي مثل “القضاء على التهديد الذي تُشكّله الجماعات الإرهابية، ومنع استخدام الأسلحة الكيماوية وانتشارها، وتخفيف معاناة ملايين المدنيين الذين مُزّقت حياتهم بسبب مزيج من الحرب والقمع والفساد والعقوبات”، هذه دوافع إنسانية رفيعة لا شك في ذلك، لكن ما دور ومسؤولية واشنطن عن كل ذلك؟، هنا يأتي اعتراف خجول ومبتسر عبر القول إن العقوبات “تؤدي بشكل غير مباشر إلى عواقب إنسانية كبيرة”!!..، إذاً هذه هي الذروة الممكنة أمريكياً للاعتراف بالمسؤولية عن جريمة محاصرة شعب بأكمله وتهديده في حياته وسبل معاشه لأسباب سياسية واستعمارية -نعم استعمارية- مطلقة.
قصارى القول: دوافع المراجعة معروفة. إنها مجرد وصفات أميركية لإنهاء الفشل، و”الاستقامة” مجدداً على طريق النجاح، أي استعادة الفاعلية الأمريكية المتفرّدة والمنفردة في سورية، وهو ما يكشفه التدقيق في “المسكوت عنه” في خطاب دعاة المراجعة العلني، فمثلاً اعترافهم بأن العقوبات “فشلت في إحداث أيّ تغيير في سلوك الحكومة السورية”، يتبعه فوراً القول: “لا بل ساهمت في زيادة اعتماد سورية على روسيا وإيران”، وبالتالي “وضعت الولايات المتحدة على الهامش، وجعلت كلّاً من روسيا وتركيا وإيران المُتحكّمَين الرئيسيين بمستقبل سورية”. وهنا بيت القصيد من المراجعة كلها، أي حتمية تغيير الأسلوب لتحقيق النتائج ذاتها، فـ” إدامة الوضع الراهن”، كما يقول أحد دعاة المراجعة، “لن تؤدي فجأة إلى نتائج مختلفة عن تلك التي شهدناها منذ عام “2011”.
لكن وكما أنه ليس لدى هؤلاء “أوهاماً كبيرة” بمقدرة المراجعة، لو تمت، على النجاح، فيجب علينا نحن، وأكثر منهم، ألاّ يكون لدينا “أوهام كبيرة” بشأنها، فما يحصل هو اعتراف بفشل أسلوب فيما هدف “الاركاع والاستتباع” هو، بالمحصلة، ذاته في الحالتين، والصراع مستمر..