نوافذ 65
عبد الكريم النّاعم
دخل صديقي، وبعد السلام من غير مصافحة تجنّباً لوباء الكورونا، وبعد فترة من الصمت سادتْ بيننا حتى كأنْ ليس في جلوسنا ما يستوجب الكلام، فالواقع الذي نعيشه، يكاد ينطبق عليه القول: “يُخرِس الفَطِن”،.. بعد فترة صمت طالت قال: “هل يُعقَل أن نجلس هكذا كقدامى الحدّادين الذين ليس لديهم فحم يوقدونه”؟!
أجبته: “تفضّل أنا كلّي آذان مصغية”.
قال: “أتردّ عليّ على طريقة مَن يُحرج الآخر ليُسكته”؟
أجبته: “معاذ الله، ولكنْ، تمرّ بالإنسان لحظات، رغم ما يراه، ورغم ما يُطالعه، يبدو وكأنّه مجرّد مادّة، وليس مُنتِجاً فيها”..
قال: “أخي أنا أعرف مماحكاتك جيّداً، هل تريد أن أختصر الزيارة؟ يا الله..”، وحاول النهوض، فأجلسته بودّ وقلت له: “سأسلّيك ببعض ما لفت انتباهي، قرأت على صفحة التواصل الاجتماعي أنّ مهاجراً عربيّاً موجوداً في أحد البلدان المتقدّمة، وكان من عادته أن يمرّ على صاحبة حانوت فيشتري منها عُبْوة كاكاو، وذات يوم مرّ كعادته وطلب منها حاجته، فقالت له: “هل تريد من السعر الجديد أم من ذات السعر القديم”؟.
سألها: “ما الفرق بين الاثنين”؟
فقالت: “الجديد فيه زيادة بنسين”..
قال: “هل هو أفضل”؟
قالت: “لا، ولكنّ السعر زاد قليلاً في بلد المنشأ، فأنا أبيع القديم بسعر ما كان عليه، وأبيع الجديد بسعره الذي ارتفع قليلاً”.
نظر إليها بعقليّة تجّار بلاده، وقال: “لماذا لا تخلطين هذا بذاك، وتبيعين الكلّ حسب التسعيرة الجديدة”؟!.
اتّسعتْ حدقتا عينيها، ونظرتْ إليه باستغراب، وأومأتْ له بيدها أن يقترب منها، فاقترب أكثر، فتفقّدت المكان كي لا يسمعها أحد، وقالت له هامسة بأدب غير جارح: “هل أنت حرامي”؟!
بدت الدّهشة على وجه مُجالِسي وقال: “يحرزْ دينها، هذا هو الوجدان”.
تابعت: “لقد نظر هو بعين التّاجر الذي لا يحلّل ولا يُحرّم، وكلّ همّه تحقيق المزيد من الأرباح، بينما كانت هي تنظر بعين الأمانة والوجدان، وأنّها ليست مسؤولة عن أن تربح فقط، بل أن تتقيّد بالقانون الذي نشأت ورُبّيت على احترامه، وهذه نظرة نوعيّة بين مَن لا يهمّه إلا نفسه، وأن يزيد في تكديس أمواله، ولو على حساب القيم والأخلاق، وعلى حساب غُبْن الآخرين، وَ.. مَن يُقدّس القانون، أتعرف بمن ذكّرني هذا”؟.
أجابني: “بِمَن”؟.
تابعتُ: “ذكّرني بما رُوي إمّا عن الشيخ رفاعة الطهطاوي، أو الأفغاني، أو الشيخ محمد عبده، لم أعد أذكر، حين زار مدينة باريس، ونظر إلى نظافة الشوارع، واتّساع الحدائق العامّة، والالتزام بالقانون، واحترام حقّ الآخر وتقديسه، وهيمنة القانون، وعدم النّظر إلى النّاس بحسب طوائفهم ومذاهبهم، والدّفاع عن حقّ الآخر في حال وقوع ظُلم عليه، وهدوء الأسواق، وانتشار المدارس، وَ.. وَ.. وَ، قال بألم وحسرة: “أرى إسلاماً ولا أرى مسلمين، وفي بلادي أرى مسلمين ولا أرى إسلاماً”، بمعنى أنّه نظر في حضارة الغرب (وأنا لا أتحدّث عن حكّامه المنحازين للصهيونية العالميّة وللبلطجي الأمريكي، أتحدّث عن أشباه تلك البائعة الأمينة في بيعها)، فوجد أنّهم يتقاطعون مع الكثير ممّا حملتْه الرسالة المحمديّة، قبل أن يُدخَل عليها ما أدخله الخلفاء/ الملوك، وما شوّهوه منها ليخدم تطلّعات هذا وذاك، من أهل الطمع، والظلم، والاستئثار والجشع، كما لم ينسَ أنّ الأذان في بلاده يُرفَع في وقته، والصلاة تُقام في أوقاتها، ويُصام رمضان، ويُحجّ إلى البيت، وقد تسمع كلمة “لا إله إلاّ الله، محمّد رسول اللّه” مئات المرّات يوميّاً، ولكنّها لا تتجاوز الحلوق، لدرجة أنّها تكاد تكون لغواً، فهو يسمع كلاماً عربيّاً إسلاميّاً، بينما التصرّف، في الغالب، هو تصرّف “الشّطارة” بمعناها المنحرف، بمعنى: “الحَرْبَقة” فما الذي يبقى من الإسلام المحمّديّ في هذه الحالة”؟!
قاطعني: “لقد أثرتَ العميق من الأشجان يا صاحبي، ووضعتَ يدك على عميق الجرح، فقد وصلنا إلى حدّ المثل الذي كان يُقال في قرانا قديماً، فقد كانوا يقولون حين يغشى الفلتان، ويغلب ما هو قاتم على غيره: “فلتْ العِجِلْ على أمّو..”.
aaalnaem@gmail.com