“يحدث في غيابك” في عرضه الجماهيري
“لن يكون الحلّ إلا بالحب”، الجملة التي اختتم بها فيلم “يحدث في غيابك” وحملت رسالته الناطقة بصوت السوريين بتوقيع المخرج سيف الدين سبيعي والسيناريست سامر محمد إسماعيل، إنتاج المؤسسة العامة للسينما، فمنذ اللحظات الأولى تشدّ المشاهد الحركة الدائرية للكاميرا واللقطة القوسية التي استخدمها المخرج في الشارة، مع التركيز على أصوات متباينة تنبعث من المذياع من صوت الشعب وبرنامج فني وأغنيات وصوت زياد الرحباني ينتقد المفارقات.
يُبنى الفيلم على أحداث قصة واقعية تتعلق بأحداث الحرب الإرهابية على سورية، حدثت في حمص حينما خطفت المجموعات المسلحة و”داعش” عشر معلمات من مدرسة الزهراء أثناء عودتهن إلى المنزل، حيث نسج الكاتب من خطوط هذه الحادثة المؤثرة حكايته السينمائية الثنائية التي تقترب من شكل أغلب أفلامه، وأخرجها ببراعة السبيعي رغم صعوبة هذا النوع الذي ينتمي إلى خصائص السينما المغلقة التي تعتمد على الحدث والأداء، تدور في مكان واحد يشبه دراما -السيتي كوم- بعيداً عن المؤثرات البصرية وعمليات الغرافيك المبهرة. يجمع “يحدث في غيابك” بين بطلي الفيلم المختلفين بالقناعات والمبادئ رغم الانتماء الواحد، فاقترنت الموسيقا التصويرية للمؤلف خالد رزق بالأحداث وتزعمت لغة الحوار في كثير من المشاهد الصامتة، وتكون مرافقة في باقي المشاهد كصولو للآلات الإفرادية ذات الوقع، التشيللو والكمان والعود، أو من خلال الموسيقا المركبة ذات الأبعاد المتداخلة الموحية بالصراع الدرامي داخل مكنونات الشخصية.
تبدأ القصة من الحدث المباشر لحظة اختطاف زوجة الصحفي -يزن خليل- وابنها الرضيع مع المعلمات، فيقوم بردّة فعل بخطف طبيبة تعمل لمصلحة المجموعات المسلحة ولديها قناعات خاطئة تكشف عنها الأحداث اللاحقة، ولم يعتمد سبيعي على الفنية المباشرة برصد الحدث وتصويره وتوثيقه، بل استند إلى خلفية الأحداث والتصوير المباشر بلقطات قريبة وواقعية من المنزل الذي يجمع النقيضين بالتفكير، ويتضح نجاح سبيعي في تمكّنه من شدّ المشاهد إلى تطور مجريات القصة من خلال أداء الممَثلين وتسلسل الأحداث بشكل متسلسل وظهور البعد العاطفي في المسار الدرامي، فعمل على تكثيف الحدث بالبعد الزمني وبطريقة غير مباشرة من خلال دور شاشة التلفزيون ونشرة الأخبار والهاتف الجوال، وأدخل بطريقة موظّفة الاشتباكات على المنطقة المتاخمة لحمص القديمة وتأثيرها المخيف على الشخصيتين والمنزل، مبتعداً تماماً عن مشاهد العنف والاشتباكات والتفجيرات بصورة مباشرة.
المنزل والحدث
من المنزل تمضي أحداث الفيلم بين الصحفي الذي خطف الطبيبة رهينة لإعادة زوجته وابنه وبين الطبيبة -الممثلة اللبنانية ربى زعرور- التي تدافع عن نفسها وحقها بأن تعود إلى حياتها، فتشتد الملاسنة بينهما لتكشف عن أفكارها الخاطئة المقتنعة بها. يحجز الصحفي الطبيبة في غرفة خاصة ويعاملها معاملة الرهينة، ومع مرور الأيام تكتشف الحسّ الإنساني لدى الصحفي أحمد الذي يقع أسير دوامة التفكير بحال زوجته وابنه، ولاسيما أن تهديد المجموعات المسلحة باحتجاز الرهينة لم يجد نفعاً، فيدمج المخرج بين تقنية الواقع والحلم وتتراءى له صورتها في أرجاء المنزل، ويختزل سبيعي عبْر حركة الكاميرا البطيئة على أثاث المنزل المتواضع والجدران والنوافذ معاناة السوريين من البرد وانقطاع التيار الكهربائي والشموع التي كانت لها دلالة رمزية في نهاية الفيلم، إضافة إلى القذائف والاشتباكات، إلى أن تتصاعد الأحداث بمشهد عاصف إثر اشتباك تكون فيه الطبيبة وحيدة في المنزل بعد أن سمح لها أحمد التحرك بحرية داخل المنزل مكتفياً بالقفل الخارجي. وتشعر أن هذا الخوف بسبب الاحتياج إلى الأمان الذي يمثله وجود أحمد، ليأتي المنعطف الذي يغيّر مسار الأحداث بمحاولة الطبيبة الهرب تحت المطر فتركض إلى الشارع الذي يظهر المدينة المنكوبة، وتشهد إعدام رجل بريء من قبل “داعش” وهم يردّدون الله أكبر، لكن أحمد يستطيع إنقاذها وإعادتها إلى المنزل ليبقى وقع هذا المشهد بذاكرتها، وتبدأ فك لغز اللعبة لتكتشف القناعات الخاطئة التي كانت تؤمن بها، ويكبر التعايش السوي بينها وبين أحمد وتشعر بمشاعر وجدانية تتعاطف معه وتنتظر الإفراج عن زوجته لتحرّر من أسرها. لكن الحادثة المفجعة كانت لحظة حاسمة بالفيلم حينما يسمع أحمد من خلال نشرة الأخبار بالتلفزيون قتل المعلمات واستشهادهن، فيركز المخرج بلقطات صامتة على وقع الخبر الحزين على أحمد، وفي الوقت نفسه الخوف على الطبيبة التي أدركت أنه سينتقم منها.
انتقام لا ينفذ
ويشدّ سبيعي الأنفاس بالمشهد المخيف، إذ يقيّد الطبيبة ويقرّر حرقها بالبنزين وهي تصارع الموت، وفي اللحظة الأخيرة ينهار ولايقوى على إشعال النار من الولاعة، وبعد أن يهدأ يفك رباطها ويعتذر لها “أنا موهيك” وتسانده بالأمل المتبقي، فابنه مازال على قيد الحياة.
ويتطرق الكاتب إلى ملمح آخر من ملامح الحرب الأهلية بتنفيذ رجال الجماعات المسلحة عمليات السطو المسلح على المنازل ونهب كل مالديهم، فيسطو –جلال شموط- ورجاله على المنزل وتدور بينهم مشادة كلامية تطال الصحفيين والمثقفين وتظهر التناقض بأفعالهم “لماذا لم تكتبوا عن الفساد” بعد سرقة محتويات المنزل، حتى الصور الخاصة لزوجة أحمد وكل ذكرياته معها، يجد أحمد الحل بالنسيان وبدء صفحة جديدة بالحب الذي سيمنحه القوة في مشهد عاطفي يحمل دلالات رمزية.
تراود الطبيبة فكرة بعد أن سرقت العصابات المسلحة كل شيء وتركوا المكتبة فقط أن تجعل من الكتب سريراً لهما، للوهلة الأولى يستغرب المشاهد هذا التصرف، لكن بعد لحظات يدرك البعد الخفي للمشهد بدلالته الرمزية المكثفة، فربما أومأ إسماعيل إلى أهمية الثقافة في حياتنا التي تحمينا من كل الاختراقات التي تمسّ الهوية السورية، وبلقاء عاطفي حميم بقبلة طويلة تنهي كل التناقضات يكون الحل ببداية جديدة، وبدلاً من الشموع التي كانت شاهدة على الأحداث طيلة زمن الفيلم الافتراضي ثلاثة أشهر تقريباً، يضاء المصباح إشراقة لأمل جديد.
ملده شويكاني