الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الحرب.. والكتابة عنها!

حسن حميد

كنتُ في مجلس ثقافي عقد أهله ندوةً حول نقاوة الأدب وجماله، فدارت الأسئلة حول متطلبات النص الأدبي/ الإبداعي، وما هي مميزاته والخصائص واجبة الحضور فيه، وما هي المثالب والعيوب التي تجعله أرضاً بوراً أو جفاء أبدياً لا أحد يمرّ به، أو يسأل عنه.

تعدّدت الآراء وتشابكت إلى حدّ الاحتباك خلال ساعات طوال من الحوار الغنيّ الهادف إلى وضع خلاصات بين أيدي كتّـاب النص الأدبي من جهة، وبين أيدي الأجيال الأدبية الطالعة التي تروم المراتب والرتب الأدبية من جهة أخرى، ولعلّ أهم ما محضه الحضور من مشتركات تبدّت في أن النص الأدبي الجميل يستند بالضرورة إلى ثقافة عالية وموهبة عالية، ومقدرة هندسية بارعة في تظهيره على نحو لافت من حيث التقنيات وتوافرها من أجل دلق ماء الاصطفاء بين ثناياه، وهذا الأمر يجعل النص جذّاباً مستحوذاً على انتباه القارئ العادي، والناقد المتخصّص، وقيل إن الموهبة هي أول موجبات النص الأدبي، ومن ثم الثقافة، ومن بعد الحرص الفني، ومن دون هذه الأمور الثلاثة، فإن جميع الخلق قادرون على الكتابة لأن الكتابة تعبير، وأشكال هذا التعبير كثيرة ومتعدّدة الوجوه، لكن ما يميّز كتابة من كتابة، هو هذه الأمور الثلاثة التي تقود النص الأدبي المكتوب إلى نبعة اسمها الغنى.

وتطرّق الحديث إلى النصوص الأدبية التي كُتبت عن الحرب التي فُرضت علينا منذ عام 2011، وما زالت آثارها وتبعاتها متتالية تترى، وقيل ما هي أهمية هذه النصوص، وما هي أدوارها في التعبير عن الحرب، والناس، والأمكنة، والحالات السود التي جاءت بها الحرب محمولة على كفّ الشرور الداحمة، وهل واكبت اشتقاقات النبل التي أبدتها النفوس، والبيوت، والرؤى، وهل سجلتها والتقطت ما فيها من كرامة وعزة وكبرياء وشجاعة وانتماء ووعي وتضحيات؟!. وراحت الآراء تعرّش مثل الدوالي، ولكنها في النهاية قرّت على أمور كثيرة ومهمّة، ومنها: إن الكتابة تعبير، وأحياناً هي صرخة أو بكاء، أو تصفيق من نوع ما، أو تعبئة لأرواح عبثت بها وجوه الترهيب والترغيب، ولذلك كانت آفتان كبيرتان جليتين في النصوص التي ظهرت مطبوعة، أولاهما: آفة الاستعجال، والثانية: آفة المباشرة والخطابية، وهما آفتان يتحيّدهما المبدعون مثلما تتحيّدهما النصوص الأدبية ذات الجمار الكبيرة؛ ولكن هول الحرب وترسباتها الجنونية كلاهما أدّيا إلى تجلي هاتين الآفتين، ولكن نحن نقول: للضرورة أحكامها، وكان التعبير عن حال الحرب الشائنة وما أدّت إليه من متغيرات وآثار سالبة.. ضرورياً جداً حتى لو كان صراخاً، أو استرجاعاً جديداً لأخبار وسائل الإعلام، كان لابدّ من الصراخ رفضاً للحرب مثلما رفضتها الدروب، والحقول، والبيوت، والمدارس، والمشافي، والصحراء، وأن هذه النصوص التي ظهرت سريعاً، مطبوعةً أو منشورة بطرق مختلفة، هي التي تشكّل المهاد الحقيقي لظهور النصوص الكبيرة بغناها الجمالي، لأن الكاتب، في مثل ظروف الحرب، يصبح جندياً حيناً، ومرآة عاكسة لما يحدث حيناً آخر.

مئات الروايات كتبها أدباء روسيا عن الحرب الروسية التي واجهت غزو نابليون بونابرت، وعرفها الروس، وعبّرت عن مشاعرهم، ولكن لم يصل منها إلى العالمية سوى رواية تولستوي /الحرب والسلم/، وهكذا حال الأدب العالمي الذي عاش ظروف الحرب في الجزائر، وفيتنام، والصين، والهند، وجنوب أفريقيا، وكذلك الأدب المقاوم الذي كتبه أدباء أوروبا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم يصل إلى البلدان الأخرى إلا بعضه، وهو قليل جداً.

وخلاصة الأمر هو أن الموهبة، والثقافة، والحرص الفني ثالوث مهمّ يقف وراء النصوص الثقيلة في جمالها ونوعيتها، حتى لو تأخرت في الظهور، والكتّـاب أصحاب الوزن النوعي الأدبي يعرفون متى يطلقون نصوصهم، ومتى يقولون لها:  إلى الخلق مع المحبة.

Hasanhamid55@yahoo.com