لماذا نعتزّ بعروبتنا رغم الواقع؟
الدكتور عبد اللطيف عمران
هناك من يرى أربعة تجليات للهُوية القومية العربية، تتباين مظاهرها وتحدياتها حسب المراحل الأربع: الأمويّة- العباسيّة- العثمانيّة- حركة التحرير الوطني والاستقلال العربيّة. وإذا شئت بإمكانك إضافة الخامسة كمعترك مصيري صعب وشائك بعد 2010.
قد يذهب بعضنا إلى الإشارة بسطوع هذه الهُوية -سياسياً- في المرحلتين الأولى والرابعة، ولا سيّما حين نمعن في قولة الجاحظ (العروبي): دولة بني (مروان) عربيّة أعرابيّة ودولة بني العباس أعجميّة (خراسانيّة)، نظراً إلى غنى الحقل الدلالي لكل لفظة في هذه الجملة، فقال الجاحظ: دولةً ولم يقل خلافةً، وقال: بني مروان، متجاهلاً الفرع السفياني في الخلافة الأمويّة، وقال: خراسانيّة، ولم يقل فارسيّة لأن خراسان العروبيّة يومها غير محافظة خراسان الإيرانيّة اليوم، فخراسان الأولى تضمّ الآن دولَ إيران وأفغانستان وتركمنستان وأوزبكستان وطاجكستان بما فيها من عرب وفرس وبلوش وبشتون وطاجيك وترك…إلخ ممن أسهم أسلافهم العلماء في سطوع أفق الحضارة -الهوية- العربية الإسلامية.
في مَعرِض الحديث عن الهويات ولا سيما القومية منها، لا بد من معاينة الماضي والحاضر لأن للهُوية أصلاً وفروعاً، ويرى بعضهم (أن الهوية قابلة للتغيّر والتبدل حسب تأثير الآخرين في عناصرها باعتبارها تتشكّل من عدة انتماءات تتبدّل عناصرها.. فيمكن أن تتحوّل إلى أداة حرب… فالهوية الثابتة تستجيب للتقوقع والانغلاق ولا تنفتح على الكون ولا تقبل الحوار مع العالم…) ودون مثاقفة مثل هذا الرأي أو مناقشته -ليس قراراً- وإنما وصولاً إلى سؤال الهوية الصعب في عالم متنوّع متغيّر تُستهدف فيه الهوية العربية، والمشروع القومي العربي وبموضوعية، فهذا الاستهداف يقع في مضمار معاناة المشاريع الإيديولوجية التقليدية بشكل عام ومنها مشروعنا القومي الذي ضعُفت فيه اليوم الرؤية الاستراتيجية، بل كادت تتلاشى كحضور فاعل في الواقع، وليس في رفوف المكتبات بسبب انحسار دور المثقفين العروبيين مقابل طفو ثقافة التكنوقراط المرتزق بالبترودولار، وإعلامهم ما يؤدي من بعض ما أدى إليه من إيمان قطاعات واسعة من الشعب العربي بأن سورية رغم العدوان عليها، والاستهداف المستدام، هي الحامل الأهم لأصالة الهوية القومية العربية، ولحضاريّتها خاصة في زمن الاتفاقات الإبراهيمية.
وحين ندافع نحن في الجمهورية العربية السورية عن عروبتنا ليس لأننا نعتز بها فحسب، بل لإيماننا بأصالتها وأصالتنا، وتسليمنا أيضاً بأننا كجغرافيا، وكزمن لم نكن وحيدين في هذا، فنحن كقطر عربي وعروبي، وكنظام سياسي، وكحزب لم نخلق الهوية (الفكرة) القومية العربية الحديثة، المرحلة الرابعة- وحيدين، تلك الهوية والفكرة التي عكف أسلافنا على توطيدها وتفعيلها منذ أواخر القرن الأسبق في مواجهة الاحتلال العثماني والتتريك، وكذلك في مواجهة الاحتلال الصيوأطلسي بعده، فكانت حركة التحرر العربية من العثمانيين والغربيين متكاملة عروبياً في مختلف الأقطار العربية التي تشهد اليوم (موجة ثالثة) من الاحتلال واستهداف الهوية عمل على تغذيتها الاحتلالان السابقان العثماني والصهيوأطلسي، إنها موجة ما يسمى بالربيع العربي، فأي ربيع، وأي عروبة؟!
ولا ننكر أن هذه الهوية تعرضت لاختبارات وطنية مريرة معاصرة من الشعب العربي في لبنان والكويت والعراق واليمن وسورية أيضاً، لو كانت الفكرة العروبية مشروعاً فاعلاً لما حدثت هذه الاختبارات مؤلمة النتائج، كما أننا في سورية لم نطرح من فراغ مشروع التضامن العربي، والأمن القومي العربي، وبالأخص في طرحنا في مرحلة من المراحل التضامن العربي الكفاحي، وجبهة الصمود والتصدي، وصولاً إلى دعم المقاومة ثقافة ونهجاً.
إن الذين وقعوا على برَم من أمرهم بطرح عروبة سورية دخلوا وأرادوا أن يدُخلوا الناس معهم في متاهات الأصل السلالي للأمة الذي نقضه أنطون سعادة نفسه، ولاذوا وحاججوا بمتاهات في هذا الأصل هي عائمة لا تزال في الجغرافيا وفي الزمن، فعمد بعضهم إلى انتزاع ثقافة بائدة من بطن التاريخ لتستوطن إحلالياً مكان ثقافة حيّة هي واحدة من أقدر ثقافات العالم عاشت وأثمرت فيها عديد الأديان والأعراق، ولا يسأل فيها عن جغرافية الفارابي وابن سينا والمتنبي وابن رشد وابن خلدون وحافظ إبرهيم والشابي والجواهري ودرويش ونزار قباني وسليمان العيسى، إن هؤلاء لم يثاقفوا طرح الخالد حافظ الأسد في أهمية عروبية وقومية الهلال الخصيب، ولا يعرفون معنى قول انطون سعادة: (غاية الحزب السعي لإنشاء جبهة عربية تكون سدّاً ضد المطامع الأجنبية- انتصرنا على إشاعة باطلة هي أن القوميين الاجتماعيين هم أعداء العرب والعروبة).
وهم غير قادرين على إدراك القيمة المثالية لقول القائد بشار الأسد: (نحن كمجتمعات نعيش أزمة هوية منذ بدأ التتريك.. ولا نغفل مساهمة الإخونجية في التفكيك بين العروبية والإسلام… فالمستهدف من هذه الطروحات ضرب فكرة العروبة لأنها العنصر الجامع ليحل محله العناصر التفريقية المختلفة).
هم برمون لأن هذا القول قيل أمام المؤسسة الدينية الوطنية التي تكاد تكون المؤسسة الإسلامية الوحيدة التي تؤمن بالهوية القومية العربية التي تزحف ضدها جموع التنظيمات الإرهابية، المؤسسة التي تقاوم معنا إخونجية حزب العدالة العثماني الذي يرى منظره أن (العمق الاستراتيجي) توقّف بعد احتلال لواء اسكندرون وعليه أن يتابع كما يفعل أردوغان في إدلب وغيرها.