بايدن.. ترميم العلاقات الخارجية ومحاسبة الخصوم
د. معن منيف سليمان
أطلق الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن حملة لترميم العلاقات الخارجية مع الحلفاء والمنظمات الدولية، ومحاسبة خصوم أمريكا، ووقّع أوامر تنفيذية لإحداث قطيعة مع السياسات التي تبنتها الإدارة السابقة، والتخلص من الإرث الثقيل الذي تركه سلفه ترامب حول قضايا الهجرة، وقضايا أخرى ملحة، وإعادة التركيز على التحالفات الدولية القائمة منذ مدة طويلة.
تعهد الرئيس جو بايدن بالتخلي عن سياسة النزعة الأحادية التي انتهجتها إدارة الرئيس السابق ترامب، والعمل على استعادة ثقة الحلفاء المستبعدين. حيث شهدت العلاقات مع حلفاء أمريكا الأوروبيين تقلبات في عهد ترامب، فتطلب الأمر من بايدن العودة إلى التحالفات القديمة، وتصحيح أخطاء الماضي في سبيل تحقيق أهدافه بعودة أمريكا لقيادة العالم، بحيث تكون شريكاً موثوقاً به من قبل حلفائها، وفي هذا الصدد قال بايدن: “سنصلح تحالفاتنا، ونشارك مع العالم مرة أخرى”.
وكان قادة الاتحاد الأوروبي دعوا بايدن إلى إعادة بناء التحالف بين ضفتي المحيط الأطلسي بعدما تعرّض للضرر خلال رئاسة ترامب، وقد أبدت رئاسة المفوضية الأوروبية تفاؤلاً واستعداداً لبداية جديدة مع الشريك الأقدم والأكثر ثقة بالنسبة لها.
مملكة آل سعود، حليف آخر للولايات المتحدة، تحمل تحديات أيضاً لبايدن، لذلك فإن أولوية إدارة بايدن ستكون اكتشاف مدى تورط الولايات المتحدة في حرب المملكة في اليمن، وتحديد طبيعة الدعم الذي ستقدمه لآل سعود، وربما يسعى بايدن بوجه عام أيضاً للنأي بالولايات المتحدة عن المملكة خصم إيران الإقليمي، وأكبر حلفاء واشنطن العرب في الشرق الأوسط، وكان ترامب يتودد إلى النظام الملكي الاستبدادي عن كثب خلال مدة حكمه، حيث شغلت مملكة آل سعود دوراً رئيساً في التحالف المناهض لإيران الذي شكّله ترامب.
والعلاقات مع المملكة، الحليف الوثيق خاصة للإدارة السابقة، قد تتوتر، وبالفعل فقد أوقف بايدن الدعم الأمريكي للحملة العسكرية التي تقودها المملكة في اليمن.
ولعل الضرر الأكبر للعلاقة الثنائية هو التداعيات المستمرة لمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول عام 2018، لاسيما بعد إصرار إدارة بايدن على اتباع القانون في هذه القضية، وكان قد أكد سابقاً أنه سيجعل السعودية تدفع ثمن مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وسيتعامل معها كونها دولة منبوذة.
وفي أفغانستان، حيث يستمر سحب القوات الأمريكية، بناء على اتفاق الإدارة السابقة مع حركة “طالبان”، لم يتم اطلاع فريق بايدن بعد على التفاصيل الكاملة المتعلقة بالاتفاق، لكن العديد من المسؤولين الأفغان يعارضون الصفقة بين الولايات المتحدة وطالبان لأنها تعرّض الأفغان للخطر، ويريدون من بايدن إنهاءها.
وفيما يتعلق بالحليف التركي المنفلت من عقاله فقد أعلن بايدن عن نيته أن يجعل تركيا تدفع الثمن بخصوص شرائها منظومة “اس ـ400 الروسية، ويعد هذا الإعلان مؤشراً على أزمة محتملة في العلاقات التركية- الأمريكية في عهد بايدن، وأن بايدن سيتعامل مع هذا الأمر بشكل صارم وشديد، وقد يخلق توتراً أكبر.
وكانت أكثر تصريحات بايدن إثارة للجدل فيما يتعلق بتركيا تلك التي أدلى بها بخصوص دعم المعارضة التركية وإيصالها للسلطة عبر الانتخابات، وقد قوبلت هذه التصريحات باستنكار شديد من أنقرة.
ويمكن القول إنه مع استلام جو بايدن سلطاته كرئيس للولايات المتحدة، وتهديده لتركيا بتغيير سياسات أمريكا تجاهها، فإن العلاقات التركية الأمريكية مقبلة على مستقبل مجهول، وعلى الرغم من كل ما سبق يجب الانتظار لرؤية كيفية تحول هذه التصريحات السلبية لبايدن إلى سياسات فعلية تجاه تركيا، وربما لا تعدو سوى كبح جماح التركي وإعادته إلى الحظيرة الأمريكية.
أما العلاقات مع الحليف الوثيق الكيان الصهيوني فلن تكون بسيطة أيضاً بعد احتضان وثيق من الإدارة السابقة، سيحتفظ بايدن بالسفارة الأمريكية في القدس، ولكن وفقاً لما قاله وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، ستتم إعادة ضبط السياسة الأمريكية التقليدية للضغط من أجل “حل الدولتين”، مضيفاً: “التحدي بالطبع هو كيفية المضي قدماً”.
وعلى الرغم من أن بايدن مؤيد قوي للكيان الصهيوني، وقد رحب بالاتفاقيات الأخيرة الموقعة بين الكيان والإمارات العربية المتحدة، إلا أن إدارته ستضغط على الأرجح لوقف بناء المستوطنات الإسرائيلية وضمها، فضلاً عن أنها ستكون أكثر ميلاً للدفاع عن احتياجات الفلسطينيين في الأمم المتحدة.
ولكن، يبدو أن أعداء أمريكا هم من ستكون لهم الأولوية، مع وجود روسيا في مرتبة متقدمة على “جدول الأعمال”، خلافاً لكثيرين في الإدارة السابقة، وقد انتقد وزير الخارجية الأمريكي بلينكن علناً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن اعتقال زعيم المعارضة أليكسي نافالني، مصرّحاً بأن التحدي الذي تمثّله روسيا “أمر ملح”.
وتشكّل الصين أكبر اختبار وتحد لقوة الولايات المتحدة في عهد بايدن، لذلك ستكون محور جهود إدارة الرئيس الجديد، خاصة بعد أن فرضت بكين مؤخراً عقوبات على 28 من الأعضاء السابقين في الإدارة الأمريكية السابقة، متهمة إياهم “بسلسلة من التحركات المجنونة التي تدخلت بشكل خطير في الشؤون الداخلية للصين”.
وبالفعل بدأت تحركات بايدن ضد الصين بتوقيع أوامر تنفيذية، بما في ذلك إعادة الانضمام إلى اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ التي انسحب منها سلفه ترامب من أجل حشد الدعم الحيوي من الحلفاء الذي سيوفر مصدر قوة لواشنطن في التعامل مع الصين.
ويعمل الحلفاء الأوروبيون على دفع بايدن إلى تغيير مسار الإدارة السابقة بشأن إيران، وإعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه عام 2015، وهناك إشارات تؤكد إمكانية حدوث ذلك، ولكن بشروط أمريكية ربما ستلقى الرفض من قبل الجانب الإيراني مع مواصلة بايدن إطالة وتعزيز القيود النووية على إيران، ومعالجة قضايا أخرى.
لقد تعهد الرئيس بايدن إصلاح أكبر قدر ممكن من الضرر خلال المئة يوم الأولى من توليه السلطة من خلال التراجع عن عدد من الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس ترامب، والتي قلبت الاتفاقيات والتحالفات الدولية التي زعم الرئيس أنها كانت مجحفة بالنسبة لأمريكا لأسباب مختلفة، ولعل أبرز هذه الاتفاقيات الدولية خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة باسم الاتفاق النووي الإيراني، وكان ترامب قد أعلن انسحاب الولايات المتحدة من هذا الاتفاق في 8 أيار 2018، كما أعاد فرض عقوبات على إيران وعلى كل من يتعامل معها تجارياً.
في هذا الصدد قال بايدن إن سياسة ترامب لم تكن فعالة ولم تؤد إلا إلى تصعيد التوترات، وتعهد بالعودة مرة أخرى إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، مع التأكيد بأنه لن يرفع العقوبات إلا بعد التأكد من التزام إيران الصارم بقواعد خطة العمل الشاملة المشتركة.
كما وقّع بايدن على أمر تنفيذي يعيد بلاده إلى اتفاقية باريس المناخية، وكان سلفه ترامب الذي كان ينكر تغير المناخ قد أعلن انسحاب الولايات المتحدة من هذه الاتفاقية في حزيران 2017 بذريعة أنها تصب في مصلحة الصين، وقال بايدن للصحفيين في المكتب البيضاوي: “سنكافح التغير المناخي كما لم نفعل هذا من قبل”.
ووقّع بايدن أمراً تنفيذياً يتعلق بالعودة إلى منظمة الصحة العالمية التي انسحب منها سلفه ترامب، وقد تعهدت إدارته بالعودة على الفور إلى منظمة الصحة العالمية، والسعي لقيادة الجهود التي تبذلها المنظمة لمحاربة فيروس كورونا، وكانت الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ كبير في هذه الهيئة المهمة العاملة في مجال الصحة العامة، إذ كانت تسهم بنحو 15 بالمئة من ميزانيتها.
ومن بين الأوامر التنفيذية إلغاء تصريح خط أنابيب “كيستون اكس ال” (Keystone XL) ، وتعليق قرار بناء جدار على الحدود مع المكسيك الذي خصص البنتاغون لإنشائه أكثر من 3 مليارات دولار، وذلك بناء على طلب الرئيس السابق، كما وقّع الرئيس مرسوماً ينص على رفع قيود السفر التي فرضتها إدارة ترامب على بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة، وتطبيق إجراءات جديدة فيما يخص الهجرة.
كما شملت القرارات الجديدة قضايا أخرى سيضطر بايدن للتعامل معها مثل: وضع العلاقات التجارية، لاسيما داخل هيئات مثل منظمة التجارة العالمية، وفي مرحلة ما سيسعى بايدن إلى رأب الصدع وتوسيع التعاون مع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن أهداف السياسة الخارجية ستظل قائمة.
لقد ورث الرئيس بايدن بالفعل سلة ممتلئة بمشاكل السياسة الخارجية الملحة، وإذا ما تعامل معها بشكل صحيح فإن العالم يمكن أن يصبح أكثر أماناً نسبياً.