“الضفيرة” في ترجمة جديدة.. خصلات متناسقة شكلاً متنافرة مضموناً!
ثلاث نساء من بلدان متباعدة تجمعهن ضفيرة شعر في رواية الكاتبة الفرنسية ليتيسيا كولومباني الصادرة حديثاً بترجمة عربية لسهيلة علي إسماعيل عن الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان “الضفيرة”.
نساء ثلاث هن نموذج لما يمكن أن تحقّقه المرأة القوية المتمردة على الواقع بحماسها وسعيها الدؤوب لاجتراح الحلول لمشكلاتها وضعفها والنهوض من بين ركام الواقع، ونفض غبار السائد المتحكم بمصيرها. اختارت الكاتبة بطلاتها من شرق العالم وغربه ووسطه لتحيط بكل أصقاع المعمورة، لتقول إن ما تقاسيه المرأة ليس حكراً على مساحة جغرافية بعينها، أو بيئة اجتماعية محدّدة، ولتحمل من خلالهن رسالة إلى كل امرأة في العالم، تلخصها بفكرة الضفيرة المتشابكة المتداخلة المتكاملة.
اختارت الكاتبة هذا العنوان كدلالة رمزية على تضافر وتشابك الحالة المصيرية والإشكاليات الاجتماعية والثقافية التي تؤطر حياة المرأة في أسلوب حياة، ليس من الهين عليها تجاوزه، أو التمرد عليه، لكننا في حالة بطلات رواية الكاتبة الفرنسية، لايمكن للقارئ التعاطف معهن بسوية واحدة، أو وضعهن ضمن ذات المحاكمة العاطفية والمنطقية. فمن يتأمل حكاية المرأة الهندية “سميتا” كإحدى ضفيرات الرواية، ويتوقف عند سيرتها المأساوية المرتبطة بمأساة شعب بأكمله، لايمكن وضعها في البوتقة ذاتها مع حكاية جوليا الإيطالية (الشخصية الروائية الثانية) والخلفية الفردية لقضيتها، أو مع سارة الكندية.
في سيرة الهندية سميتا هناك غنى وتنوع بالأحداث يفرضه تنوّع المجتمع الهندي الثقافي والروحي والاجتماعي والتاريخي أيضاً، هذا التنوع بالتفاصيل يستحق وحده رواية ملحمية مشوقة، ولاسيما بطلة الكاتبة في هذا النص، فهي امرأة تنتمي إلى جماعة الداليت المنبوذة اجتماعياً، كما يرد في الرواية، أفراد تلك الجماعة يعملون في تنظيف قاذورات الجماعات الأخرى الأغنى والأرفع شأناً، هذا العمل يتوارثونه جيلاً بعد جيل، لكن سميتا تقرر التمرد على هذا الواقع، وترفض أن ترث طفلتها “لاليتا” هذا المصير، فتقرّر إرسالها إلى المدرسة، المحرمة على جماعة الداليت، لتتعلم القراءة والكتابة، لكن البرهمي، أي المعلم، يطلب من لاليتا تنظيف المدرسة، ويقوم بجلدها بالسياط، لتعود إلى والدتها مدماة، مكسورة. عندها تقرّر سميتا الهرب بها بعيداً عن ولاية أوتار براديش، في رحلة شاقة ومؤلمة كان حرياً بالكاتبة الاستفاضة في تقفي أثرها المفعم بعناصر الإدهاش والتشويق الدرامي، لكنها تختزل كثيراً من معاناتها لتتنقل بينها وبين بطلاتها الأخريات ضمن أبواب متتابعة ومنفصلة شكلاً وبناء فنياً.
تلك المرأة الهندية تقرّر في رحلتها الحج إلى معبد الآلهة لنيل بركتها وتنذر شعرها وضفيرة ابنتها الكثيفة والطويلة قرباناً لها، وهو القربان الذي أعتاد فقراء الهند التضحية به كأغلى ما يملكون.
أما المرأة الأخرى فهي جوليا من مدينة باليرمو الصقيلية ابنة السنوات العشرين، التي تولت إدارة ورشة صناعة الشعر المستعار، بعد تعرض والدها لحادث أصابه بالشلل، هذه الورشة التي توارثتها عائلتها أباً عن جد منذ عام 1926، وتواجه مصير البيع لسداد ديون الأب تمكّنت جوليا بثباتها وإصرارها، من إنقاذها والنهوض بها لتصل منتجاتها إلى كل بقاع المعمورة، بعد أن قرّرت بمساعدة صديقها الهندي كماكيت سينغ الهارب من ويلات العنف الطائفي والعرقي في بلاده، أن تستورد الشعر الهندي الكثيف والناعم والرخيص الثمن، وقد كان من بين ذاك الشعر ضفيرة سميتا وابنتها.
الشخصية الثالثة هي سارة الكندية محامية من مدينة مونتريال، في الأربعينيات من عمرها، أم لثلاثة أولاد، تصاب بمرض السرطان وتخضع لعملية استئصال ثدي، ويسبب لها العلاج بالجرعات الكيماوية خسارة شعر رأسها، لكنها تتغلب على مرضها وضعفها، ونظرة الناس إليها، كشخصية واهنة ومريضة، عندما تقرّر شراء وصلة شعر مستعار “باروكة” من صناعة إيطالية وشعر هندي كثيف ومصفف بعناية فائقة.
هكذا تشتغل الكاتبة على المفارقة والغرابة لبناء عالم غنيّ بالتفاصيل، والمشارب الثقافية والاجتماعية تقودنا معها إلى حيوات متألمة لكن قوية وغنية بالعبر والقيم الإنسانية النبيلة، رغم عدم عدالة ومنطقية الجمع بين مأساة امرأة هي ضحية لمأساة اجتماعية كبيرة شاركت في صنعها مجموعة من العوامل منها الاستعمارية التي تنتمي إليها كل من شخصيتي جوليا وسارة، فالمأساة بالنسبة للمرأة الهندية جماعية عامة، في حين قضية الاثنتين الأخيرتين فردية ضيقة، لا تقارن بالأولى. فمن ضحّى بالشعر مجاناً ليأخذ بركة الآلهة، لا يعلم أن قربانها ذهب ليصنع منه شعراً مستعاراً يدرّ ربحاً كبيراً لامرأة أخرى في بلد آخر، ولا لتتزين به امرأة حرمت من شعرها الطبيعي، إذن مقاسات الضفيرة غير عادلة ولا متساوية، هناك من يدفع الثمن وهناك من يقبض الثمن، ولا يمكن النظر إلى الحكايات الثلاث كضفيرة متكاملة متشابكة شكلاً وليس مضموناً.
صدرت الرواية بترجمة متقنة ولغة سلسة مسبوكة بخبرة وعناية تنمّ عن امتلاك ناصية اللغتين المترجم منها والمترجم عنها. مع العلم أن هذه الترجمة هي الثانية للعربية.
آصف إبراهيم