إلى من لا يهمه الأمر!؟
د. نهلة عيسى
اليوم كنت أريد الحديث عن الجدل الكبير الذي أثاره مقالي الأسبوع الماضي، وهو جدل أسعدني لأنه أكد لي حيوية وآنية واجتماعية ما أكتب في منبر (جريدة البعث) أظنه من أكثر منابر الصحافة التقليدية الوطنية فهماً لدور الإعلام، وهذا حديث طويل، لن أكرره اليوم، فقد قررت العدول عن ذلك، بعد أن حملني منذ أيام الموت بين ذراعيه وركض بي نحو البلاد البعيدة، ثم على حين غرة بدَّل رأيه ورماني مجدداً على رصيف الحياة، ربما لأخبر القصة، وأروي كيف بكل بساطة أنقض علي وعلى سيارتي سائق سيارة أجرة عامداً متعمداً، وأنا جالسة في سيارتي الواقفة على يمين الطريق، أمام أعين العشرات من الرجال الذين تصرفوا وكأنهم لم يروا، وتركوه يرحل بهدوء، باعتبار أن الأمر طبيعي، رغم أنه لولا بقية في العمر لكنت الآن في عداد الراحلين!؟.
لذلك إلى من لا يهمه الأمر: دعوني أروي لكم الحكاية من البداية، ولماذا وصلنا إلى هذه المرحلة. القصة باختصار يا سادة: استيقظنا ذات صباح، أظنه الجمعة، لنجد أنفسنا سجناء حرب، حولت كل ما فينا وحولنا إلى رماد، وما تزال منذ عشر سنوات تفاجئنا كل يوم بقبيح جديد، وكان علينا أن نختار إما أن نموت كمداً وخوفاً في البيوت، أو نموت برصاصة أو شظية أو كذبة أو تطاول أو جوعاً إن تجرأنا، واخترنا، دون اتفاق مسبق، الجرأة، وتابعنا العيش وكأن شيئاً لم يكن، رغم أن عيوننا كانت مليئة بالدم والبارود والدمع، لأننا بالعقل الباطن فهمنا أن هذه الحرب تستهدف تعرية جذورنا، فتحولنا إلى شجرة بلاستيكية، هي ليست حية، ولكنها تبدو للناظرين دائمة الخضرة، وكسبنا التحدي، ولهذا ليس مسموحاً لأحد أن يضع لنا علامات إرشادية عن الصمود بالصمت! لأن صراخنا في وجه الدجل والخطأ قمة الصمود، ومنتهى الإيمان بالوطن.
إلى من لا يهمه الأمر، ويطالبنا برسم وجوه “سياحية” على وجوهنا لشد عضد الوطن: وجوهنا مغسولة من الكذب بالدم الطاهر، وقهوتنا الصباحية لها طعم الجرح، ووجعنا المنشور على شاشات الدنيا، وكأنها أرصفة، لا يمكن إخفاؤه بالأقنعة، ولا يمكن إلغاؤه بنقله من المسرح إلى الكواليس، أو من غرفة المستشفى إلى المشرحة حفاظاً على نظافة بهو الاستقبال والممرات، فصوت الجرح عال، وصدقوا أو لا تصدقوا: الصراخ بديل صحي عن الانفجار، وهو دفاع مستميت عن الحياة، عن الأمل، عن صفاء وجه هذا الوطن الحزين، ووحده اليأس صامت.
إلى من لا يهمه الأمر: هل تظنون حقاً انتهاء الحرب!؟ دعوني أخبركم أن الحرب الحقيقية بالكاد بدأت مع علو صوت الفجار، والتجار، ومقاولي الحرب، الذين تسيدوا مع الحصار، الشوارع والمحال وأماكن العمل وحتى البيوت بثقافة الحرب وأخلاقها، بغية تجويعنا، وجعل الشكوى صوتنا، وهي بالتأكيد، أنكر الأصوات، ولكي لا تصبح الشكوى (النق) عنواننا، نصرخ، نشجب، نضع أصابعنا في عين النار ونكتوي، ولكننا رغم أنف من يجوعوننا، ورغم الركب التي يظنونها مكسورة.. لا نركع.
إلى من لا يهمه الأمر: مهما بذلنا من جهد “لعقلنة” ما يجري لحياتنا، ومهما حاولنا رسم إستراتيجية له، أو خارطة طريق، أو جدول زمني، لا يمكن لأكثر المتعصبين لدعاوي “الصمت السياحي” عدم الاعتراف بأن فيما يجري ويدور لمسات جنون سادية، رغم أن البديل عن ما يجري بنا الآن قد يكون أسوأ من حالنا الآن، لكن لا يمكن معالجة الحال بتكتيف المريض بقميص الجنون، وبالتسفيه وبالشيطنة، بل بالتشخيص الصحيح المبني على طرح الأسئلة، الصحيح والوجيه والجوهري والصريح من الأسئلة، ونحن من نحب هذا الوطن الجريح، بلا ادعاء، ولا طنطنة، كل ما نفعله أننا نرمي في وجوه من يريدون “تلبيسنا” قميص الجنون، بالأسئلة، فإن كان لديهم إجابات فليطربوا بها مسامعنا، وإلا فليصمتوا، لأن أسئلتنا يريد الوطن عليها أجوبة، ولأننا بكل صدق، ونقاء الكون نستطيع القول: إذا كان الوطن رسالة، فهذا الشعب الموجوع، الصارخ، المتشبث بالسؤال، صاحب الركب التي يظنونها مكسورة، هو عنوان الرسالة.