تجنّب الزّاويا الحادّة في حواركَ مع الآخرين
أوس أحمد أسعد
مات الرجل صاحب الحكمة السّابقة، لكن الدرس الذي ألقاه عليّ ما زال راسخاً في نفسي، وقد كنتُ في مسيس الحاجة إلى هذا الدّرس، لأنني كنتُ مجادلاً عنيفاً. وقد خرجت بنتيجة مريحة على مدى تجربتي الطويلة في هذه الحياة، وهي أنه لكي تكسب جدالاً، تجنّبه كما لو كان حيّة رقطاء، أو زلزالاً مدمّراً!. هذا ما قاله ديل كارنيجي في كتابه “كيف تكسَب الأصدقاء وتؤثّر في النّاس”، إذ حتى لو ربحتَ النّقاش أو خسرتَه فأنت خاسر، لأنّ الآخر الذي أرغم على الاعتقاد بما لا يعتقده سيظلّ على اعتقاده الأوّل، مهما تظاهر بالعكس من جهة، ومن جهة ثانية، فأنت قد حطّمت كبرياءه حين ظننتَ أنّك انتصرت عليه. يقول الرئيس الأمريكي بنجامين فرانكلين: “إذا جادلتَ، وتحدّيت، وناقضت، فربّما تستطيع أن تنتصر أحياناً، لكنه نصر أجوف، لأنك ستخسر، على أي حال. الأجدى أن تحسّن علاقتك بمحدثك، فماذا تفضّل، انتصاراً أجوف، أم علاقة طيبة بالرجل؟ فأنت قلّما تفوز بالاثنين معاً”.
قال بوذا: “لا تنتهي الكراهية أبداً بالكراهية، وإنما تنتهي بالحبّ” كذلك، الجدال لا ينتهي أبداً بالجدال، وإنما بالكياسة، والتّلطّف، والرغبة الصادقة في أن تقف على وجهة نظر الشّخص الآخر، فإذا كنت ستثبت وجهة نطرك، فاطرحها برفق ولباقة ومن باب الاحتمالات التي قد تصيب وقد تخطئ. فلا ثوابت قارّة في الفكر العلمي البشري، ولا في الحياة عموماً. وقد أوضّحتْ النظريّة النسبيّة ذلك بقوّة براهينها في كلّ المجالات، بما فيها الواقع الموضوعي. حيث الحركة والتغيّير هما أصل الأشياء والأفكار. فما كنّا نؤمن به من سنوات ليس هو ما نؤمن به الآن، حيث المعارف ستتسع وتتعمّق عموديّاً وأفقيّاً بالضّرورة. وقديماً قال الفيلسوف “سقراط”: “أعلم شيئاً واحداً هو أنّني لا أعلم”. فلو علمتَ خطأ رأي محدثك وقصوره، فالأفضل أن تخبره بلطافة أنّك تملك رأياً آخر غير رأيه.
ثمة عبارات إيجابيّة في فنّ الحوار، قد يكون لها الفعل السحري، كأن تقول لمحدّثكَ: قد أكون مخطئاً، وجلّ من لا يخطئ، بل كثيراً ما أخطئ ولكن دعنا نتبادل الآراء ووجهات النظر ونختبرها. ما المانع أن نقلّب وجهات نظر أخرى قد تكون مقنعة وجديرة بالتّفكير أيضاً. ويستحسن حين النقاش أن نبدأ بالنّقاط المتّفق عليها كتقاطعات ومشتركات في الحديث، بدل التّأكيد على نقاط الخلاف. ولا بأس بالتّمهيد قولاً: بأنّ الهدف واحد، لكن الوسائل مختلفة. ومن الأشياء المهمّة بهذا الصّدد، أن نحاول استبقاء محدثنا في منطقة النّعم، متجنّبين دفعه إلى منطقة اللّا. لأنّه بمجرّد دخوله إليها، فإنه سيبقى فيها حتى النّفس الأخير، وذلك لربطه إيّاها بموضوع الكبرياء والكرامة الشّخصيّة. لذلك فالمتحدّث اللّبق هو من يحصل منذ البداية على أكبر عدد من الإجابات بنعم. حيث يكون بذلك قد وجّه محدّثه باتجاه إيجابي يصعب عليه التخلّي عنه فيما بعد. وهذا يتقاطع مع طريقة “سقراط” العبقريّة في الإقناع، وهو يسير حافي القدمين بين الناس، ويسأل أسئلة لا يملك مجادلُه إلّا الإجابة عنها بنعم. وهكذا يظلّ يكسب الجواب تلو الجواب حتى يرى مناظره آخر الأمر، أنّه انتهى إلى مبدأ كان ينكره منذ دقائق خلت!. كما من الأرشد والأحجى لنا أن ندع محدّثنا يتولّى إدارة دفة الحديث، وأن نستدرجه إلى الحديث بالأسئلة، حتى يُفضي بمكنونات نفسه، وألّا نقاطعه مادام في حديثه بقيّة، وأن ننصتَ له باحترامٍ وتيقّظٍ، ونشجّعه على إكمال رأيه بحريّة تامة. بأساليب كهذه سيسير النقاش برفق وسلاسة على السّكّة الصّحيحة. فقولك المتواضع: “رأيي صحّ يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصّح سيجعل الحديث يسير إلى خواتيمه الإيجابيّة. وسيبثّ في محدّثك روح العدالة والإنصاف، وسيقنعه هو الآخر بأنّه لا يملك الحقائق النهائيّة أبداً. وبأنه قد يخطئ كغيره، حيث لا حقائق كاملة في كون متغيّر قائم على الحركة المستمرّة.
لنتمثّل بحواراتنا المغزى العميق لهذه الأسطورة البسيطة، عن الريح والشّمس، التي تقول: اختلفت الشمس والريح، فهذه تقول أنّها أقوى وأشدّ بأساً، وتلك تزعم بأنّها تملك هذه الصفات لنفسها دون الأخرى، وأخيراً قالت الرّيح للشّمس:
أترين ذاك الرجل المتدثّر بعباءته؟ أتحدّاك أن تجعليه يخلع معطفه بأسرع مما أستطيع!
قبلت الشمس التّحدي، وأهابت بالريح أن تثبت قولها، ثمّ أسرعت للتّواري خلف غمامةٍ ثقيلةٍ، فيما زمجرت الريح وراحت تصول وتجول، لكنّها بمحاولاتها هذه لم تزد الرجل إلّا تعلّقاً بعباءته، حتى يئست من أفعالها. وهنا بزغتْ الشمس المحتجبة من مكمنها، وأرختْ بضفائرها الذّهبيّة على كتفيّ الرجل، فما كان منه سوى أن خلع عباءته بهدوء دون أيّة مقاومة !.
هكذا نرى أنّ لسياسةِ الرفق واللّين قوّة تفوق قوّة الغضب والعنف. هذه السياسة اللاعنفيّة هي نفسها من هزمتْ الإمبراطوريّة التي لا تغيب عنها الشمس، بريطانيا، حيث استقلّت الهند، بقيادة زعيمها الوطني، المهاتما غاندي. وهي نفسها طريقة الماء الرّقيق في تفتيتِ أصلب الصخور. وطريقة الأنثى الحكيمة التي تمكّنها من كسب قلوب أعتى الرجال واستمالة أشرسهم إلى صفّها. ولتستعيد ذاكرتنا عبارة عمرها خمسة آلاف سنة قالها حكيم صيني معروف: “من يمشي هوناً، يمشي دهراً”، ولا ينقصنا في سبيل الدّفاع عن رأينا، سوى تذكّر طريقة الفيلسوف الحافي القدمين، سقراط، وهي: أن تسأل محدّثك أسئلة تحصل من خلالها على الإجابة، بنعم.