لا فرق إن خسرت أم ربحت
لا تولي وزارة المالية اهتماماً جدياً لما تحقّقه شركات القطاع العام الصناعي من أرباح بعشرات المليارات، لأن ما يهمّها أن هذه المليارات، سواء أكانت أرباحاً أم فوائض مالية، ستعود إلى خزينتها عاجلاً وليس آجلاً.
أكثر من ذلك لا تأخذ وزارة المالية بعين الاعتبار هذه الأرباح ولا الفوائض عند إعداد الموازنة العامة للدولة، فهي دائماً ترصد لوزارة الصناعة اعتمادات أقل بكثير من خطط التطوير والتحديث وإعادة إعمار ما تخرّب وتدمّر من شركات ومعامل. والسؤال: متى ستتعامل وزارة المالية مع القطاع الصناعي العام بعقلية الاقتصادي؟
الواقع يؤكد أن ما من فرق بالنسبة لوزارة الصناعة إن خسرت شركاتها أم ربحت المليارات، فالأمر سيان، فلا تقدم ملموساً على صعيد الإصلاح الهيكلي للقطاع العام حتى الآن. والمقصود بالإصلاح والتطوير ليس تجديد خطوط الإنتاج فقط، وإنما إعادة النظر بالآليات التي يُدار بها القطاع العام، فهو يخضع منذ عقود لإشراف وتوجيه عدد كبير من الجهات الوصائية، دائماً – وليس غالباً – متناقضة بوجهات نظرها حول مشاريع التطوير والتحديث والإصلاح!.
وبما أن وزارة المالية هي الجهة الأقوى والأكثر تأثيراً في القطاع العام، لأنها تتحكّم بسيولته، فإنها أيضاً الجهة الأكثر اعتراضاً وعرقلة لإصلاح هذا القطاع. وبالتالي فالسؤال الأكثر أهمية الذي لم تجب عنه أي حكومة حتى الآن: متى سيتحرّر القطاع العام من الوصاية ويتمتّع بالاستقلالية المالية والإدارية؟
قلناها مراراً إن الجهات الوصائية تتعامل مع القطاع العام كقاصر يعجز عن إدارة شؤونه مباشرة، لذا يحتاج بنظرها إلى أوصياء كثر وليس إلى وصيّ واحد فقط. وسألنا مراراً: أما آن للقطاع العام الصناعي أن يبلغ سن الرشد؟.
ما من لجنة حكومية للإصلاح منذ ثمانينات القرن الماضي إلا وكانت أبرز توصياتها منح القطاع العام الصناعي الاستقلال المالي والإداري ومحاسبته على النتائج. ولكن ما من حكومة على مدى العقود الثلاثة الماضية قبلت بهذا النوع من التوصيات، وكانت تحيل نتائج لجان الإصلاح دائماً إلى الأرشيف، بل ما من حكومة إلا وشغلتنا بلجنة واحدة على الأقل مهمتها وضع تصور أو رؤية متكاملة لإصلاح القطاع العام، والنتيجة دائماً كانت: “صفر مكعب بامتياز”!!.
وفي تسعينيات القرن الماضي أرادت الحكومة آنذاك أن تُثبت بأن القطاع العام عصيّ على الإصلاح مهما توفر له من إمكانيات ومستلزمات، فأطلقت تجربة (الإدارة بالأهداف) وطبقتها على أربع شركات صناعية لمدة عام.. فماذا كانت النتيجة؟.
نجحت التجربة، فقرّرت حكومة التسعينيات تمديدها عاماً آخر، لتجدد التجربة نجاحها وتثبت أن القطاع العام في ظل تشريعات وإجراءات تحرّره ولو نسبياً من الجهات الوصائية المتعدّدة والمتناقضة قد بلغ سن الرشد وقادر على تحقيق الكثير لمصلحة اقتصاد البلاد والعباد. وبدلاً من تعميم التجربة وقوننتها لتطبيقها على جميع شركات القطاع العام الصناعي، تم وأدها لننشغل بعدها بلجنة جديدة للإصلاح تبعتها لجان ولجان.
وسبقت تجربة الإدارة بالأهداف، تجربة أخرى ملفتة في ثمانينيات القرن الماضي بعنوان (العقد الاجتماعي) في إحدى شركات القطاع العام الخاسرة، وقد حقّقت التجربة الأرباح للشركة من جهة، وزادت دخل العمل من جهة أخرى، لأنها ربطت للمرة الأولى الدخل بالإنتاج. وبدلاً من قوننة التجربة وتعميمها حاربتها وزارة المالية – آنذاك -واعتبرتها مخالفة للقوانين النافذة وألغتها من الوجود، بل كادت أن تطالب بمحاسبة من طبقها!.
بالمختصر المفيد: إذا لم تعترف الجهات الوصائية أن القطاع العام، الذي ساعد في صمود سورية لمدة عشرة أعوام وبمواجهة العقوبات، قد بلغ سن الرشد، فهذا يعني ألا فرق إن خسر أم ربح هذا القطاع، وما من لجنة لإصلاحه ستنجح بمهمتها لا في الأمد المنظور ولا البعيد.. جداً!!.
علي عبود