رواية الحرب السورية.. حكاية مثقلة بالوجع
بديهي أن تكون الحرب مادة مغرية للكتابة، ولكن هل حقاً كل ما كُتب عن الحرب السورية يتمتّع بمعايير الرواية، أم هي مثيل الوثائق والأخبار والحكايات المستقاة من أفواه أبطالها وروايتها، وتقع في واحدة من سقطات الرواية السورية، وهي التعاطي مع النص الروائي على أنه وثيقة يحتّم علينا إشهارها في وجه التاريخ.
وتحت عنوان “بين ضجيج المعارك وصهيل الكلمات.. رواية الحرب حكاية مثقلة بالوجع” أقام لقاء شآم والقلم جلسته الـ30 في المركز الثقافي –أبو رمانة- أدارته فاتن دعبول.
رواية الحرب
لا تقتصرُ الحرب على ميادين القتال والجثث والمفخخات والحرق، إنما تطبع بميسمها كل فعاليات ومظاهر الحياة، وبدوره قال الأديب نذير جعفر: الحرب تستدعي تعبيراً وتصويراً فنياً لانعكاساتها وذلك يرتبط باستجابة المبدع نفسه ومدى تفاعله وقدرته على رؤية ما يستوجب الكتابة عنه، ومن هنا فإن رواية الحرب ليست مجرد رصد وتسجيل للوقائع اليومية، أو لما تفرزه من مآسٍ يعرفها الناس، بل هي في المقام الأول معنية بالتوغل في تداعياتها العميقة على المستوى الاجتماعي والنفسي، وتصوير ما أحدثته من شروخ وتبدلات درامية في النفوس، ولعلّ ذلك ما يسوغ مشروعية الكتابة لقول ما لم يقله الآخرون، وكشف الأعماق القصيّة والتحولات الخطيرة في المواقف والعلاقات، ولا تقف على السطح بقدر ما تجترح معجزاتها في اكتشاف الجوهر وصياغته بما يحقق المتعة والتشويق والمعرفة ويرتقي بالشعور الإنساني إلى عرش النبالة والجمال ومحاربة النذالة والقماءة.
في المدوّنة الروائية لهذه الحرب حتى اليوم ما يزيد على 200 رواية سورية وبضع روايات عربية، النوع الأول استعاد أحداث الصراع في الثمانينات مع قوى التطرف الديني في سياق حبكة سردية سيرية تنسج خيوطها بين الأمس واليوم، وينجرف النوع الثاني إلى مستوى التقارير البعيدة عن فنية وجمالية العمل الروائي موجهاً خطابه السردي في سياق إيديولوجي مباشر محكوم مسبقاً بالعداء وتصفية الحسابات وليس بصدقية الفن، واكتفت روايات النوع الثالث بدور الشاهد الذي يدوّن يومياته ومشاهدته، أما النوع الرابع فقد اتخذ منحى فلسفياً في فهم ما يحدث وتأويله عبر الحفر عميقاً في دواخل النفس البشرية وما يعتريها من إحباطات وهزائم في الحب والسياسة محاولاً تلمّس جذور العنف وصوره وتمثيلاته الواقعية والرمزية التي اجتاحت المنطقة. وآخر نوع في رواية الحرب هي تلك التي عايشت مرارة الفقد والمعاناة النفسية والقتل والتدمير والاعتداء على كل ما هو جميل، فانتصرت لحقيقة ما حدث ويحدث لا من أجل معارضة أو موالاة بل من أجل سورية بترابها وشعبها.
ضجيج الحرب
“الحرب تبقى شيئاً مغرياً للكتابة مثيراً ومحرضاً” بهذه الجملة بدأت الكاتبة إيمان شرباتي مداخلتها، وعن تجربتها في الكتابة قالت: الحرب تتداخل بشكل عضوي ومتماسك وبالغ التعقيد في كتابة الرواية ويكون السؤال: هل تكون التجربة ناضجة عندما تتناول الحدث طازجاً؟.
تناولت رواية “بنت العراب” ما حدث في سورية وأفسحت المجال لتطور الشخصيات وتشابكها دون أن تتناول ضجيج المعركة وصوت الانفجارات وهدير الصواريخ، ولم تجنح إلى التقريرية التي سقط فيها كثير من النتاج الروائي الذي أنتج زمن الحرب، فالكثرة لا تعني أن كل النتاج قدّم تجربة سردية جديدة، بل جنح بعضه ليكون مجرد حكاية أحياناً أو حالة توثيقية.
وأضافت: “الرواية هي حكمة اللايقين” حسب ميلان كونديرا، ومن هنا فإن ما جرى في سورية خلال هذه الفترة اتّسم بالارتباك، والرواية عادة حالة سردية تأملية تستلزم التوقف والتأمل، لكن ما جرى في سورية ما يزال مستمراً لاهثاً، وكثير من النتاج مال أكثر نحو التأريخ وربما التوثيق.
وعن مرحلة الديمومة قالت شرباتي: في اعتقادي أنه سؤال محوري يجب على الروائي الجاد أن يطرحه على نفسه، وأن يعمل على جعل الرسالة في عمله مرشحة للحياة عبر الابتكار والتخييل، وعلى الروائي أن يتناول مسائل وجودية مهمّة حتى وهو يتصدى لموضوع رئيسي مثل الحرب، والتركيز يجب أن يكون على القيمة الجمالية والفنية للرواية وهو ما يمنحها الديمومة والصلاحية للقراءة في كل وقت.
طبخة على عجل
الرواية الوثائقية حاضرة في الأدب، وهذا لا يضرّ الفن بل يزيده تنوعاً وجمالاً، أما بالنسبة للإمتاع فهو يعدّ شرطاً، وعن رواية الحرب قال الأديب محمد الحفري: قيمة العمل الفنية يجب أن تطغى على غيرها من العناصر، والذين طبخوا على عجل ستبقى معظم أعمالهم من دون طعم ولا رائحة ولا لون. أما بالنسبة للحكاية فيجب أن تتغلب دون إغفال التقنية التي يجب أن نتعامل بها مع الحكاية ومع المتن العام للنص الروائي، في الواقع لقد اشتغل بعض أبناء الجيل الجديد على التقنية ونسوا الحكاية، ولا يجوز ذلك، فهما متلازمان، لكن الحكاية تتفوق قليلاً لأننا أبناء الحكاية ولأن النص يحتاجها، ولعلّ ذلك ينطبق حتى على باقي النصوص الأدبية. وما كتب وما أنتج على صعيد الفنون والأجناس الأدبية كافة لا يزال قليلاً قياساً إلى حجم الحدث السوري والفاجعة المروعة والمأساة التي ما من شبيه لها على مدار التاريخ.
وختم بالقول: لمن يفكرون بالكتابة على طريقة السياسيين، الكتابة ليست مدحاً ولا شتماً لأحد، هي وجهة نظر نقدمها بطرائقنا الفنية، وللذين يضعون رجلاً في الأرض السهلة وأخرى في الأرض البور، لن تكتبوا أبداً لأن للكتابة أساليبها وطرقها التي تمر من خلالها أضيق الدروب وتتجاوز أحلك الظروف ومنها الرقابة التي يتخيلها بعضهم وحشاً كاسراً.
جمان بركات