“ليل العبيد” مشروع تخرج متواضع في الشكل والمضمون
من المبشّر أن نرى لبعض الجامعات الخاصة في البلاد، اهتمامها بالشأن الفني والذي هو من أهم روافع الشأن الثقافي العام، وذلك بوجود كليات تقوم بتدريس الفنون في هذه الجامعات، كفن التمثيل، الفن الذي اقتصر تدريسه ومنذ عقود، على الأكاديمية الرسمية الوحيدة المعنية بتدريس الفنون المسرحية- تمثيل- سينوغرافيا- موسيقى- نقد مسرحي- رقص، خلا العديد من ورشات تدريب التمثيل، التي يقيمها بعض الممثلين المتذمرين من شحّ العمل في الدراما التلفزيونية المحلية، والمحكومة بفوضى عامة، من الطبيعي ألا تفضي إلى أية نتائج إيجابية على هذا المستوى!، فعدم الانخراط الفعلي بسوق العمل الدرامي، هو ما يغلب على الشريحة الأكبر من الممثلين المحليين الخريجين، وهذه واحدة من التحديات التي يجب أن تضعها في حسبانها الجامعات الخاصة، التي تذهب في خياراتها التدريسية هذا المذهب -أي تدريس التمثيل- والعمل على إيجاد سوق عمل للخريجين، وهنا يمكن الحديث عن دائرة فنية متكاملة، تبدأ بتدريس الفنون، ولا تنتهي بإنتاجها.
جامعة “المنارة” –وبرؤية تُحسب لها في خيارها تدريس التمثيل- احتفلت بتقديم مشروع تخرج طلاب الفصل الأول –كلية فنون الأداء- قسم التمثيل-، واختارت أن تقدّم للجمهور على خشبة “القباني” العرض المسرحي: “ليل العبيد”، عن نص للكاتب الراحل ممدوح عدوان، وإخراج فؤاد حسن، الأستاذ المدرّس في الكلية المذكورة، وصاحب الباع في تدريس التمثيل والإشراف على العديد من عروض مشاريع التخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية.
“ليل العبيد” قدّمه 18 طالباً، 11 منهم يتهيؤون للتخرج، و7 من طلاب السنة الأولى، وثلاثة طلاب من السنة الثانية، تصدّوا لبعض أشغال السينوغرافيا، وطالما أن العرض لم يُقدّم في قاعات الجامعة، بل انتقل ليكون أمام الجمهور، فهذه أيضاً جرأة تُحسب للقيمين على المشروع في اتجاهين، الأول: خيار مواجهة الجمهور، والذي يعوّل عليه في كسب المشروعية الفنية، سواء من الجمهور مباشرة، أو أيضاً من المشتغلين بالشأن الدرامي، من: مخرجين، كُتّاب، منتجين دراميين، الذين يتعاملون مع هذه العروض المسرحية المباشرة، على أنها المكان الأهم لاكتشاف المواهب التمثيلية، التي يتمّ فيها رفد هذا القطاع الحيوي بالدماء الشابة والطاقات الموهوبة. أما الشق الثاني فهو: عدم الركون إلى تقديم مشاريع التخرج في قاعات الجامعة و”استوديوهاتها”، وهذا من شأنه أن يفتح الباب لمناقشة ما تمّ تقديمه، على أنه فرجة مسرحية متكاملة، والجمهور سيكون أيضاً من الحكام الثقال للعمل المسرحي ككل، وللمقومات التي حملتها الفرجة المسرحية المُترجمة لهذا الخيار، ومن مختلف مكونات العرض المسرحي.
مسرحية “ليل العبيد” كُتبت عام 1977، -وكانت قد مُنعت من العرض-، يسلّط الكاتب فيها ضوءاً قوياً على الصراع الطبقي والعرقي والثقافي أيضاً، في مرحلة صدر الإسلام، وذلك باستدعاء بعض الشخصيات التاريخية من تلك المرحلة -الحطيئة، وحشي- ليجلو من خلال حوارات لها طابع فكري فلسفي طبيعة الصراع الذي نشب بين السادة والعبيد في “الجاهلية” وما تلاها، مبيناً فيه الكيفية التي تعيد فيها الطبقات الاجتماعية، ذات الثقل الاقتصادي الممزوج بعصبية قبلية، صياغة الحياة الاجتماعية، وفقاً لذائقتها وبما يضمن مصالحها الشخصية، ويضمن بقاءها بقوة، وذلك من خلال تسخيرها السياسة لتحقيق ما يكفل لها ما تريد، وأحد أهم أسباب ذهاب “ممدوح” إلى التاريخ والاستعانة به، لكشف العديد من المشكلات الاجتماعية المستمرة، التي أنتجها واقع المؤلف وواقع مجتمعه –السياسي /الاجتماعي/ والاقتصادي- إذا كان السبب خلف تأليف “ليل العبيد” يرتبط فكرياً بالواقع الذي يحيا المؤلف بين طبقاته، وخياره الترميز التاريخي لمناقشة هذا الواقع، هو خيار منطقي وعملي، في الوقوف على أسباب هذه المشكلات المستمرة، لطرحها ومناقشتها، فهل يعني هذا أن الخيار الذي وقع على المسرحية المذكورة، لتكون مشروع تخرج طلاب التمثيل في جامعة “المنارة”، هو خيار ينطلق من هذه الرؤية؟ وفي حال كان الأمر كذلك، فأين المعالجة الدرامتورجية لهذا الخيار؟ لقد غابت الدرامتورجية، في التعامل مع النص المسرحي، باعتباره نصاً مفتوحاً على التأويل المستمر له، سواء في تحقيقه على شكل فرجة مسرحية جذابة، أو على مستوى المضمون أيضاً، فهي حسب منطقها، المكلفة بتوضيحه وتبيان مقاصده، لتذهب الرمزية وإسقاطاتها نحو العبث و”اللامعنى”، وذلك لتكرارها بالمعايير الفنية والدرامية نفسها التي كانت سائدة منذ قرابة النصف قرن!، الأمر الذي خلق حالة من الملل عند الحضور، بعد الرتابة التي سادت العرض، رغم وجود العديد من الحبكات البارعة في النص المكتوب، لكن عدم معالجتها درامياً ودرامتورجياً، خصوصاً وأن العرض باللغة الفصحى، كان له تأثيره أيضاً على أداء الطلاب، الذين ظهروا بمستويات متفاوتة، ليكون عدم الانسجام فيما بينهم، والذي هو من أهم ما يجب تحقيقه في مشاريع التخرّج المسرحية، هو الواضح والبيّن والجليّ، هذا عدا عن الأخطاء اللغوية والحركية الجسيمة، ما أدى إلى إصابة أحد الطلاب في واحدة من المبارزات التي جرت، وذلك لعدم إتقان حركات المبارزة بالسيف والرمح، خصوصاً وأنها مما يتعلّمه الطلاب ويتقنونه خلال سنوات دراستهم.
وفي سؤال مخرج العرض عن المناهج الدراسية المنتخبة لهذا الغرض في كلية الأداء، كان جوابه بأنها هي بشكل أساسي المناهج المنتخبة نفسها في المعهد العالي للفنون المسرحية! فهل المشكلة في المنهاج، أم في مستوى اكتساب الطلاب للجانب العملي بشكل خاص؟.
أيضاً المنطوق اللفظي جاء متفاوتاً بين الطلاب، ما أدى إلى إضعاف الحوار، هذا التفاوت سينسحب على الأداء بين طالب وآخر، ففي حين جاء الأداء جيداً من بعض الطلاب، فإنه لم يكن كذلك بالنسبة للبعض الآخر، على المستويين الحركي والصوتي، خصوصاً وأن الميزانسين تمّ تنفيذه في مساحات ضيّقة على الخشبة، فالديكور –الستائر البيضاء التي تنعكس الإضاءة عليها، فتتغير ألوانها من مشهد إلى آخر- كانت فضفاضة جداً، أرخت على العرض ثقلاً بصرياً ونفسياً، أولاً بالمباشرة التي تعبّر عنها ألوان الإضاءة، وثانياً بتضييقها على الممثلين والحدّ من حركتهم، والمباشرة كصفة، تنسحب أيضاً على موسيقى العرض، التي جاءت فجة، ومما تيسر على الشابكة!.
خلاصة: خطوة في الاتجاه الصحيح من جامعة المنارة بتدريسها لفن التمثيل، إلا أن النتائج -وإن كان من المبكر الحكم عليها بشكل عام- لم تأتِ مقدماتها دالة على نتائج مرضية، وهذا ما يخبر عنه تواضع مستوى “ليل العبيد” في مجمله كعرض مسرحي لمشروع تخرج.
تمّام علي بركات