إدارة بايدن والشركات التقنية الصينية
ريا خوري
مازالت العلاقة الصينية- الأمريكية تتجه نحو مستقبل يكتنفه الغموض، وهي عرضة للتأثر بعدة عوامل، أبرزها مدى الثقة بين البلدين، وخوف كل منهما من تقلّب موازين القوى واستحقاقاتها، وعلى مدى السنوات الماضية لم تتوقف الخلافات بينهما، فقد شنّت الولايات المتحدة الأمريكية هجوماً على الصين زاعمة أنها لا تنفذ ما التزمت به في اتفاق المرحلة الأولى، الذي قُصد أن يكون اتفاقاً أولياً نسبياً تتبعه مرحلة ثانية، رغم أن إدراة ترامب هي من فرضت رسوم على واردات صينية تقدر قيمتها بنحو 200 مليار دولار.
الاتفاق بدأ سريانه منذ شهر شباط العام الماضي، حيث تعهدت الصين بشراء سلع وخدمات أمريكية بقيمة 63.9 مليار دولار أمريكي خلال عام ٢٠٢٠، وأن تلتزم بشراء سلع وخدمات أمريكية على مدى عامين بقيمة ٢٠٠ مليار دولار، كما أنها تستورد سلعاً زراعية أقل بكثير من مستويات عام ٢٠١٧، وترجع ذلك إلى التباطؤ الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا.
هذا الخلاف التجاري يعد جزءاً يسيراً من مشهد يتعلق في جوهره بالاقتصاد العالمي، لكن السؤال هو: من افتعل هذه الأزمة؟.. لقد شن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هجوماً على شركة هواوي، ثم تلا ذلك خلاف متفاعل بشأن تطبيقين صينيين، هما تطبيق “تيك توك، وويتشات” بحجة مخاوف تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، تضاف إلى ذلك خلافات أخرى تتعلق بقانون الأمن القومي الصيني الجديد لهونغ كونغ، وأصل فيروس كورونا، لذلك تنتظر الصين ومعها العديد من دول العالم الخطوات العملية التي سيقدم عليها الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه الصين وشركاتها الكبرى، التي خضعت لضغوط غير مسبوقة في عهد ترامب الذي وقّع أمراً تنفيذياً في ١٥ أيار عام ٢٠١٩ يقضي بتأمين تكنولوجيات الإعلام والاتصال، وكل السلسلة اللوجستية الهامة المرتبطة بها من أجل وقف التعاون التكنولوجي مع الصين، وحرمان شركاتها من الاستفادة من خدمات شركات التكنولوجيا الأمريكية، وفي طليعتها شركة “غوغل”، وذلك في سياق الحرب الاقتصادية التي فجّرتها الولايات المتحدة مع الصين بسبب تقنية الجيل الخامس للاتصالات التي تمتلك “شركة هواوي” بشأنها أكبر نسبة من براءات الاختراع في العالم.
هذا الصراع الحاد المتعلق بالجيل الخامس يعبّر عن مخاوف الدول الغربية جميعها المرتبطة بالتحولات التكنولوجية التي سيشهدها العالم في سياق نموذج شبكة فائقة السرعة ستكون له فائدة عظيمة وضخمة بالنسبة للأنترنت والأشياء المتصلة عبر تقنية ستسمح بإحداث ثورة هائلة في أسلوب تعامل الإنسان مع الواقع الافتراضي، وستتيح للكثير من البضائع، لاسيما صناعة وتجارة السيارات، التحرك بناء على خاصية القيادة الذاتية، خاصة أن “شركة هواوي” استطاعت أن تحتل في السنة الماضية مركز الصدارة في مجال تكنولوجيا الاتصالات المتطورة، على الرغم من العقوبات الأمريكية على الصين.
هذه المعطيات تؤكد أن العقوبات الأمريكية على “شركة هواوي”، حتى وإن كانت تبدو عملية اقتصادية، إلا أنها تحمل في جوهرها بعداً جيوسياسياً كبيراً لا يرتبط فقط بدواعي الأمن السيبراني، لأن الصعود والسقوط في مجال التقنية المتطورة يحدثان بسرعة هائلة، فقد تغيّر مشهد عالم التقنية في أقل من ١٠ سنوات، حيث صعدت شركات إلى القمة، واختفت شركات أخرى فجأة من المسرح الاقتصادي والتجاري، الأمر الذي أسهم في إحداث تغيرات أساسية كبرى على مستوى توازنات دول العالم.
ويرجع المراقبون والمتخصصون الاستراتيجيون هذا التذبذب في السياسة الأمريكية تجاه شركات التقنية الصينية إلى الآثار العكسية السلبية للعقوبات الأمريكية على الشركات الأمريكية ذاتها التي تطور وتنتج تقنياتها لبيعها بأثمان مرتفعة، وللحصول على عوائد مادية ضخمة من ورائها، وليس لاحتكارها، إذ من شأن هذه السياسة الاقتصادية القائمة على الحظر والكبح أن تحول الشركات الأمريكية الكبرى إلى مصدر تموين غير موثوق بالنسبة للشركاء الأجانب، ليس هذا فقط، بل قامت وكالة أخبار أمريكية بنشر تقارير تفيد بأن حيازة “شركة هواوي” أكبر عدد من براءات الاختراع المتعلقة بتكنولوجيا الجيل الخامس في العالم، ستجعل الولايات المتحدة مضطرة لدفع أموال لها كي تتمكن من توظيف التقنيات المبتكرة والحديثة من طرف الشركة الصينية.
من الواضح تماماً، في كل الأحوال، أن الحرب الاقتصادية التي بدأت رحاها تدور بين الولايات المتحدة والصين تؤثر بشكل كبير في الشركات الصينية، وفي العديد من الأطراف المتعاملة معها، وفي الوقت نفسه فالاقتصاد الأمريكي لا يستطيع أن يتخلى عن المزايا العديدة التي توفرها السوق الصينية، التي مازالت تمثّل أكبر مستهلك للتقنيات الأمريكية في العالم.
من هنا يمكننا القول صراحة: إن إدارة الرئيس جو بايدن، حتى وإن كانت المعطيات تشير إلى أنها لن تتخلى عن سياسة الضغط على الصين، في سياق ما وصفه مؤخراً الرئيس بايدن بالمنافسة الشرسة والعنيفة معها، ستعدل وفق المنهج السياسي من قواعد الخلاف الاقتصادي مع الصين حفاظاً على مبادىء حرية التجارة.