“نحو عالم ملون”.. الفن التشكيلي في مواجهة الخراب غير المرئي ومناخات القسوة اللامحدودة!!
“البعث الأسبوعية” ــ تمام علي بركات
في وقت وزمان، ومكان أيضاً، تراجع دور النُخب عن المشاركة الفعّالة في الحياة الاجتماعية والإنسانية والفنية، التي تحيا البلاد على إيقاعاتها المتغيرة والمتبدلة، منذ عشر سنوات، لا تنتهي لدى الفنان التشكيلي بديع جحجاح الأسباب للانخراط في هذه الحياة على مستويات عدة، ليس آخرها ذهابه في شراكة مع وزارة التربية نحو إطلاق مسابقة “ألوان أفكار” للعام الرابع على التوالي.
المسابقة، التي انطلقت مطلع الشهر الجاري، تذهب بروحها وطبيعتها الفنية والاجتماعية نحو عالم المدرسة بمراحلها الثلاث (ابتدائية – إعدادية – ثانوية)، باعتبار المدرسة الحاضن التربوي والمعرفي والفني الأهم، والأكثر مصداقية، لدى مختلف شرائح المجتمع السوري، الذي أصابته – كغيره من مجتمعات العالم الثالث – لوثة استهلاك لا يكل لما لا ينتجه؛ والحديث هنا عن تكنلوجيا الاتصالات اللاسلكية، وأذرعها “الأخطبوطية”، من وسائل تواصل “اجتماعي” غزت مختلف الشرائح العمرية.. لوثة غيبت المفهوم الفعلي للتواصل الاجتماعي، القائم على اللقاء وتبادل الأفكار والأحاديث والمشاعر نفسها التي ينتجها اللقاء الإنساني، من تعاضد وألفة ومحبة، بعد أن كرست (تلك الوسائل) الفردية والعزلة والنجاة كحالة شخصية وليس كنهج مجتمعي متوازن يحفظ ويجمع ويحمي الجميع؛ وهذا واحد من الأسباب العميقة التي يتحدث عنها صاحب مشروع “ألف – نون”.
يقول: من المحزن والمؤسف فعلاً أن أنظر كإنسان سحرت عوالمه الألوان منذ طفولته، وعرف قيمة أثرها على الوعي واللاوعي الإنساني – خصوصاً في مراحل مبكرة من التكوين العام لهذين العالمين – وعلى إدراكه لما تعجز اللغة عن إيصاله في أحيان كثيرة، ويدرك ويعي تماماً ما تربيه الخبرة والممارسة العملية الطويلة في وجدان الناشئة من فهم مغاير، وغير مباشر أو تلقيني، للحياة نفسها، وللطبيعة عموماً بمفرداتها الهائلة التنوع والإيحاء، وللحس الإنساني الذي يرتقي ويتم تهذيبه وتحقيق سموه بتلك العوالم التي يقترحها اللون كحامل أساسي للخيال – لا أحد يحلم بالأبيض والأسود!! – في مواجهة ما يسود من قيم استهلاكية محضة انتشرت كالنار في الهشيم في حيوات طلابنا، وفي مختلف مراحلهم الدراسية، خصوصاً وأن الحرب التي عصفت بالبلاد كان لها وقعها شديد الأثر في خلق مناخات من القسوة اللامحدودة، التي تركت ما تركت من خراب غير مرئي عند الجميع عموماً، وعند الناشئة بشكل خاص.. لوثة غزت تلك العقول الغضة، وحفرت فيها عميقاً، تاركة ندوباً غائرة في النفس لم يسلم منها حتى الكبار!! لذا كان من الطبيعي أن يذهب مشروع “ألف – نون”، في أحد أهم أغصانه وآماله، نحو العائلة السورية أولاً، وذلك من خلال العمل الجدي والدؤوب مع الشريحة الأكثر تضرراً كما هي العادة من الحرب، أملاً في اجتراح عوالم باذخة من الجمال، تساهم في إعادة الفرح والخير والمحبة لبناة الغد، أبنائنا، فالفنون تربي وتعلم وتنشئ، والفن التشكيلي كان وما زال من أهم الفنون قاطبة، في إقامة حوار تفاعلي شخصي وعام مع النفس.. وأحد مهام هذا الحوار الفني تحقيق الارتقاء والسمو والسلام النفسي عند الأجيال التي لا يجوز، وتحت أي ظرف كان، عدم الذهاب إليها حيث هي، وتقديم العديد من المشاريع الإنسانية أولاً، والفنية والاجتماعية بمقام مواز، والتي تحقق، في حال تم الاشتغال عليها بدراية ومعرفة، ما نأمله كبشر، في الدرجة الأهم، وقبل كل شيء، من سلام نفسي وحسي يساهم الفن الحقيقي صاحب المشروع والفكرة الخلاقة في إعادة تشكيل جوهره المحارب بطبيعته للقبح والبشاعة بأشكالهما كافة، والتي اختبرنا كأفراد وعائلات ومجتمع أثرها المدمر على الروح، وبالتالي على الطموح والأمل، وعلى الغد برمته، في حال لم نعمل وبسرعة لا تحتمل التأجيل، ودون تردد، لرفع هذه الآثار من نفوس الناشئة، وغرس القيم الإنسانية والمجتمعية والفكرية العليا أيضاً في تلك الأرض الطيبة.
وعن طبيعة المسابقة وتفاصيلها، قال جحجاح: مسابقة “ألوان وأفكار” لهذا العام 2021، جاءت تحت عنوان عريض “نحو عالم ملون”، وهي تنقسم إلى ثلاثة مسارب عمرية وصفيّة: الحلقة الأولى، ويشارك فيها الطلاب من الصف الأول وحتى الصف السادس، وهذه الحلقة عنوانها “أتخيل عالمي الذي أحب”، وسيكون لدينا 100 فائز من هذه الحلقة، وذلك لتشجيع ورفع منسوب المشاركة الفعالة في اتجاهين، وكل فائز يحصل على 10 آلاف ليرة؛ والحلقة الثانية يشارك فيها الطلاب من الصف السابع وحتى الصف التاسع، وتحمل عنوان “من سأكون في المستقبل”، وسيكون هناك 30 فائزاً يحصل كل منهم على مكافأة رمزية بقيمة 15 ألف ليرة، أما المرحلة الثالثة فتضم طلاب الصف العاشر وحتى البكالوريا، وتحمل أيضاً عنوانها الخاص “رسم شخصية عالمية مؤثرة بأسلوبك الخاص”، وهو أيضا عنوان وضع بدراية لطبيعة هذه المرحلة العمرية، لأسئلتها وهواجسها، وقلقها الإبداعي أولاً، وستُمنح جائزة هذه المرحلة لـ 20 فائزاً يحصل كل منهم على 20 ألف ليرة.
وحول ما يثار عن تدني قيمة المكافأة المادية، قال بديع: القيمة الحقيقية والفعلية تتأتى من الحالة المعنوية التي ستخلقها هذه التجربة عند المشاركين، أولاً لجهة مشاهدتهم لإبداعاتهم الفنية وهي تُعرض في معرض خاص بالمسابقة ستقيمه غاليري “ألف-نون”، وما سيتركه هذا الأمر من شعور بالرضا النفسي والتفوق المعنوي عند الفائزين.. طبعاً هذا لاحق لهدف المسابقة الأساس، وهو توريط هؤلاء الطلاب بعلاقة فنية تدوم أبداً، ويكتسبون من خلالها – فازوا أم لا – ثقة بالنفس، وعلاقات اجتماعية وإنسانية أساسها التنافس في الجمال، علاقات يجمعها الفن ويربيها، إحساس بأهمية هذا الإنجاز ومنعكسه الشرطي على ذواتهم، فهؤلاء هم من سيحملون حبق الأيام القادمة ومستقبل هذه البلاد الطيبة والكريمة.
وعن طبيعة الشراكة مع وزارة التربية في هذه المسابقة، يخبرنا بديع جحجاح، سفير “جمعية ألوان من اجل السلام الايطالية العالمية”: دور وزارة التربية مهم وأساسي، ولا يمكن تحقيق النتائج المرجوة في هذا المشروع الإنساني دون هذا الدور، فهي قدمت جميع التسهيلات اللوجستية لـ “ألوان وأفكار”، ومن خلالها سيتم التعميم على مختلف المدارس بحلقاتها الثلاث في سورية، والأهم أنها ستكون صمام الأمان لتحقيق أكبر نسبة مشاركة من مختلف جغرافية البلاد.
يذكر أن المسابقة تنتهي في الأول من نيسان القادم، ويتم إعلان النتائج في 15 أيار 2021.