أوطان بهويّات مفتّتة.. ملوكٌ وزعماءٌ دُمى
أوس أحمد أسعد
يقال إنّ “تشرشل” الشّخصيّة الأكثر شهرة وجدلاً في التاريخ الإنكليزي الحديث، رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية قال يوماً:
“الأردن” كان فكرة خطرت لي في الربيع، حوالي الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر. شهر آذار 1921م وخلال ثلاثة أيام قام وزير المستعمرات البريطاني ومعاونوه الأربعون باختراع خريطة جديدة للشرق الأوسط، حيث خلقوا بلدين جديدين، واختاروا ملكين لهما ورسموا الحدود بخطّ إصبع على الرمل، سمّوا الأراضي التي يحتضنها نهرا “دِجلة والفرات” عراقاً، ونصّبوا عليها “فيصل” ملكاً، والأراضي المقتطعة من فلسطين، سمّيتْ “الأردن” ونصّبوا عليها “أخاه” عبد الله ملكاً، هذان الملكان الأخوان كلاهما ينتميان إلى أسرة ضُمّت إلى الميزانيّة البريطانيّة بتوصية من “لورانس العرب”، الجاسوس البريطاني المعروف، بينما كانت “فرنسا” في هذه الأثناء تخترع “لبنان” وتنصّب عليه من تشاء، وفي عام 1932م أنهى “ابن سعود” حربه الطويلة مع مراكز قوى عائليّة أخرى كانت تشكّل خطراً على أحلامه الهادفة للاستيلاء على مكّة والمدينة، وأعلن نفسه ملكاً على هاتين المدينتين المقدّستين والصحراء المحيطة بهما، وسمّى ابن سعود مملكته باسم أسرته “العربيّة السعوديّة” ثمّ سلّم البترول المكتشف لشركة “ستاندر أويل” البريطانيّة، وقد احتاجت السعوديّة بأمرائها الذين يعدّون بالآلاف، لأكثر من ثلاثة وسبعين سنة لتنظيم أوّل انتخابات، عفواً، كلمة انتخابات كلمة فضفاضة في الأنظمة العائليّة الملكيّة، الأصحُّ القول، التّعيينات، حيث لا توجد أحزاب في المملكة الوهابيّة، فهي محظورة، كذلك لم تشارك المرأة التي كانت بدورها ممنوعة من حقوقٍ أدنى من حقّ الانتخاب بكثير، فكيف سيسمح لها استلام مناصبَ قياديّة؟.
عام 1915م غزتْ أمريكا جزيرة “هاييتي” وأعلن “روبرت لا نسينغ” بأنّ سكانها من العرق الأسود عاجزون عن حكم أنفسهم بأنفسهم بسبب ميلهم الموروث إلى حياة التوحّش، إضافة إلى عجزهم البدنيّ عن التحضّر، وبقي الغزاة فيها تسعة عشر عاماً، وعُلّق زعيمها الوطني “شارلمان بيرالت” على صليب إحدى البوابات.
واحد وعشرون عاماً استمرّ احتلال أمريكا “نيكاراغوا” ثمّ نصّب بعدها الديكتاتور “سوموزا” واستمر احتلال “الدومينكان” تسع سنوات لينصّب بعدها “تورخيّو” ديكتاتوراً.
وأطاع الجنرالُ “بينوشيت” أوامر “هنري كيسنجر” بألّا تتحوّل “تشيلي” إلى الشيوعيّة، وأحكم قبضته على أنفاسها. لكن “كوبا” بقيت عصيّة على الاحتلال، ولم تستطعْ أمريكا ومرتزقتها تجاوز خليج الخنازير، أثناء التّفكير بغزوها، الذي كاد يشعل حرباً ضروساً مع العملاق السوفييتي المناصر لكوبا آنذاك.
عام 1960م احتفلت الكونغو باستقلالها، وقد كانت مستعمرة بلجيكيّة، ودوّى صوت “باتريس لومومبا” الذي مثّل حينها صوت الكتلة الصّامتة من الشّعب، حيث استُقبلتْ كلمته بحماسٍ كبير وقاطعها الجمهور الإفريقي بالتّصفيق ثماني مرّات، لما تضمّنته من مبادئ وأفكار تمثّل طموحاته وآماله في الاستقلال والحريّة، لكن الأذن الاستعماريّة الأوروبيّة كان لها رأي آخر، إذ تلقّتْ الخطاب بصمتٍ جليديٍّ، مبيّتةً أبشعَ النّوايا تجاه هذا الزعيم الذي استطاع استقطاب الرّوح الشّعبيّة بقوّةٍ إلى صفّه، وفعلاً كان هذا الخطاب بمثابة النهاية الفعليّة للزعيم “لومومبا” الخارج لتوّه من السجن، وهو الذي كسبَ الانتخابات الحرّة الأولى بتاريخ الكونغو، وترأس الحكومة الأولى، لكن الصّحافة البلجيكيّة حاولتْ الحطّ من مكانته عبر وسمه بالهذياني تارةً، واللّصّ الانتهازي تارة أخرى، أو بالستاليني. أمّا مدير المخابرات الأمريكيّة الشّهير “آلان دالاس” فقد أعطى التعليمات لموظّفيه بضرورة استبدال “لومومبا” بأسرع وقت عبر التصفية، هكذا تولّى ضباط بلجيكيون المهمّة، وتمّت التصفية إعداماً بالرصاص 1961م مع اثنين من معاونيه المقرّبين ومن ثمّ تذويباً بالأسيد، وقد تمّ الأمر بالتّواطؤ مع ضبّاط القوات الدولية الذين كان يندّد “لومومبا” بعنصريّتهم التي تختزل إفريقيا بأنّها مكان لصيد الأسود وسوق للعبيد، “موبوتو” بطل العالم الحرّ كما سمّاه الغرب آنذاك، هو من أعطى الأوامر بالقضاء على “لومومبا” فكافأه هذا الغرب، بالبقاء في السلطة لمدة ثلاثين عاماً، وحين مات كانت ثروته أقلّ بقليل من حجم الدين الخارجي لبلاده.
“توماس سانكارا” غيّر اسم المستعمرة الفرنسيّة المسمّاة “فولتا العليا” لتسمّى “بوركينا فاسو” أيّ أرض الرجال الشرفاء، بعد زمن طويل من السيطرة الاستعماريّة عليها، وقد ورثَ هؤلاء الرجال الشرفاء، المستعمرة أرضاً خربة بأنهار جافة وحقول مجدبة وغابات محروقة، ومواليد كثيرة لا يصل إلّا واحد من ضمن ثلاثة فيها إلى سنّ الثلاثة أشهر، حاول “سانكارا” أن يحدث تغييراً جذريّاً، عبر برنامج لمحو الأميّة، وتوليد وإعادة تأهيل الغابات الوطنية، وتكثير وسائل التغذية، والعناية بالصحّة وهذا ما أدّى لانتشار أصداء أعماله في كامل إفريقيا، وهو الذي قال إنّ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ينكران علينا أرصدة البحث عن الماء على عمق مائة متر، لكنّهم يعرضون علينا حفر آبار بعمق ثلاثة آلاف متر للبحث عن البترول، وفي عام 1987م قرّر ما يسمّى المجتمع الدولي التّخلّص من هذا اللّومومبا الجديد، فأوكلَتْ مهمّة الاغتيال إلى عميل يُدعى “كومباوري” الذي كوفئ على عمله بأن بقي رئيساً إلى الأبد.