نهاية النفوذ الأوروبي في آسيا.. العلاقات المهمة باتت اليوم من مخلفات التاريخ!!
“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر
مع نهوض الصين، تسعى الحكومات في جميع أنحاء آسيا إلى إقامة علاقات اقتصادية وسياسية أقوى مع الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية، كلٍ على حدة، على أمل أن تعمل هذه العلاقات المعززة كقوة موازنة لتزايد نفوذ الصين وتخفيف حالة عدم اليقين المتزايدة بشأن التزام الولايات المتحدة طويل الأجل تجاه أوروبا.
ويتم دعم هذه الجهود من خلال الاهتمام الأوروبي الجديد بآسيا.. لقد عرّف الاتحاد الأوروبي الصين بأنها “منافس استراتيجي” يتحرك لتعزيز علاقاته مع الدول الآسيوية الأخرى؛ بما يشمل اتفاقيات التجارة والاستثمار الأخيرة مع اليابان وسنغافورة وفيتنام. وتتطلع الدول الأوروبية أيضاً إلى تحسين علاقاتها الآسيوية، فالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، حريصة على إظهار التزام آسيوي مستمر من أجل إعطاء مضمون لطموحاتها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من أجل “بريطانيا العالمية”.
لكن هناك انفصالاً جوهرياً آخذاً في الاتساع بين الخطاب والواقع، فقد تعتقد أوروبا أن لها دوراً تلعبه في آسيا، لكن الحقيقة أنها أصبحت غير مؤثرة على نحو متزايد باعتبارها اللاعب الثالث في المنطقة بعد الصين والولايات المتحدة. ومع تلاشي نفوذها بسرعة، أصبحت أوروبا في الواقع على هامش الديناميكيات الجيوسياسية والاقتصادية لآسيا، وأي اهتمام جوهري لا يزال لدى الدول الأوروبية في المنطقة يبدو الآن أنه يركز على الصين أكثر من الدول الآسيوية الأصغر والأطراف.
يتجلى الدور الاقتصادي المتراجع لأوروبا داخل المنطقة في تدفقات التجارة العالمية، فقد شكلت ما يقرب من خمس إجمالي التدفقات التجارية في آسيا، باستثناء الصين، في عام 1999، لتنخفض إلى 13٪ في عام 2019. واليوم، ترسل أستراليا وإندونيسيا وسنغافورة وتايوان أقل من عُشر صادراتها من البضائع إلى الدول الأوروبية؛ فقد أرسلت آسيا باستثناء الصين ضعف عدد الصادرات من حيث القيمة إلى أوروبا مقارنة بالصين، في عام 1999، ولكن هذه النسبة انعكست تماماً بحلول عام 2019، حيث أصبحت الصين الآن الشريك التجاري المهيمن لبقية المنطقة بهامش كبير ومتزايد.
كما أن الأهمية المالية لأوروبا آخذة في التراجع، فقبل عشر سنوات، كانت بنوك أكبر خمسة اقتصادات في أوروبا تمثل 40٪ من إجمالي الإقراض الأجنبي في جنوب شرق آسيا، ولكن في عام 2019، مثلت أقل من الربع. لقد خفضت البنوك الأوروبية بالفعل عروضها لبعض الدول الآسيوية على مدى السنوات الخمس الماضية، بما في ذلك إندونيسيا وماليزيا والفلبين؛ ويعكس هذا الاتجاه الذي تنتهجه العديد من المؤسسات المالية الأوروبية، وخاصة البنوك الاستثمارية، تقليص تطلعاتها الآسيوية الأوسع، وتركيز جهودها الإقليمية على الصين.
تتجلى الأهمية المتدهورة لأوروبا أيضاً من خلال دورها الهامشي في تمويل استثمارات البنية التحتية في آسيا. وبالمقارنة مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، أو الشراكة اليابانية للبنية التحتية عالية الجودة، فإن استراتيجية الاتحاد الأوروبي للاتصال بين أوروبا وآسيا “EACS”محدودة الحجم والنطاق. وانعكاساً لتوازن القوى المتغير بين الصين والاتحاد الأوروبي، يبدو أن “EACS| تركز بشكل أكبر على الحد من المزيد من القوة الصينية في جنوب شرق أوروبا بدلاً من تطوير البنية التحتية في آسيا، ما يمكن اعتباره رد فعل عدوانياً تجاه صعود الصين وليس التزاماً إيجابياً بالمشاركة الآسيوية. صحيح أن العديد من الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي لها تاريخ طويل في التعامل مع المنطقة، لكن الصعود الصيني أدى بسرعة إلى إزاحة ما بقي من نفوذها الاقتصادي. وقد أظهر الخلاف الأخير بين كمبوديا والاتحاد الأوروبي ذلك، فقد رفعت أوروبا الرسوم الجمركية، عام 2020 على العديد من الواردات الكمبودية؛ وفي حين أن هذا الضغط الاقتصادي كان كافياً في السابق لتغيير سلوك كمبوديا، إلا إن علاقتها القوية مع الصين سمحت لها بتجاهل التحذير الأوروبي. وبدلاً من ذلك، قامت كمبوديا بتسريع اتفاقية التجارة الحرة مع الصين، في مؤشر واضح على تغير ميزان القوى الاقتصادي في المنطقة والأهمية المتراجعة لأوروبا. وتلك هي مشكلة بالنسبة لأوروبا، لأن نفوذها الوحيد داخل المنطقة اقتصادي، فهي لا تملك إلاّ الحد الأدنى من القدرة على تقديم أو الحفاظ على قدرات القوة الصلبة الكبيرة داخل آسيا. وفي جميع أنحاء أوروبا، تمتلك فرنسا والمملكة المتحدة، فقط، القدرة على إجراء عمليات عسكرية في آسيا وبطريقة متفرقة ومحدودة، فمجموعة حاملات الطائرات التي تعتزم المملكة المتحدة إرسالها إلى آسيا هذا العام، على سبيل المثال، ستمثل نسبة كبيرة من البحرية الملكية لكنها ستظل قزمة أمام أسطول البحر الجنوبي التابع لجيش التحرير الشعبي، وهو واحد فقط من ثلاثة أساطيل بحرية في الصين.
على هذا النحو، من غير الواضح ما يمكن أن تتوقعه الدول الآسيوية التي تتطلع إلى أوروبا لمواجهة صعود الصين. صحيح أن بعض الدول الأوروبية تظل مهمة داخل المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، لكنها ببساطة لا تمتلك القدرة أو النية للمساهمة في كتلة آسيوية مناهضة للصين. وقد تتحدث أوروبا عن تعزيز علاقاتها مع الدول الآسيوية، لكن ليس لديها الكثير لتقدمه مقارنة بالصين أو بالولايات المتحدة، سواء اقتصادياً أو سياسياً أو عسكرياً.
في الواقع، تركز الدول الأوروبية بشكل أكبر على علاقاتها الاقتصادية مع القوة العظمى الآسيوية، وقد انعكس ذلك من خلال التسرع الأوروبي الأخير في الموافقة على معاهدة استثمار مع الصين. يوضح ذلك مدى السرعة التي تغير بها ميزان القوة الاقتصادي بين أوروبا والصين على مدى العقود الأخيرة. وهذا التوازن، أو عدم التوازن المتزايد، من المرجح أن يتحول أكثر لصالح الصين بالنظر إلى القضايا الداخلية في أوروبا والافتقار إلى الديناميكية الاقتصادية.
وهكذا، وكما تنبأ جورج أورويل في “1984”، ينقسم العالم إلى ثلاث كتل اقتصادية وجيوسياسية متميزة. وقد تكون لأوروبا علاقات اقتصادية وسياسية قوية نسبياً مع الأمريكيتين، لكن دورها في آسيا ضعيف بالفعل، وهو يتلاشى بسرعة. لذلك، لا ينبغي للدول الآسيوية التي تبحث عن شركاء في مواجهة صعود الصين أن تتطلع إلى أوروبا، بل إلى جيرانها المباشرين. وهذا بحد ذاته يثير العديد من التحديات، إن مستقبل آسيا هو الصين، لتصبح أي علاقة مهمة كانت لأوروبا ذات يوم في المنطقة من مخلفات التاريخ.