ميانمار بين فكي واشنطن وأوروبا
إعداد: إبراهيم أحمد
لا يزال الخوف من أعمال انتقامية كبيراً في ميانمار، التي عاشت منذ استقلالها عام 1948 تحت حكم دكتاتوريات عسكرية على مدى خمسين عاماً. فقد سقطت ميانمار، التي كانت تُعرف باسم بورما سابقاً، في قبضة الجيش مجدداً في انقلاب عسكري هو الثالث منذ استقلالها، بعد انقلابي عام 1962 و1988، وقبل أن تستكمل البلاد عملية التحوّل الديمقراطي التي بدأت قبل حوالي عشر سنوات تخلّلها اتفاق على تقاسم السلطة عام 2015 في أعقاب انتخابات فاز فيها حزب “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” بزعامة أونغ سان سو تشي بالأغلبية الساحقة من مقاعد البرلمان. وأثار الانقلاب -الذي اعتبره الجنرال مين أونغ هلاينغ الذي بات يجمع حالياً كل السلطات تقريباً على رأس حكومة عسكرية، أن “لا مفر منه”- موجة إدانات دولية، فيما اعتبر فرنسيس وايد، وهو صاحب مؤلفات عن البلاد، أن “الشعب يدرك إلى أي حدّ يمكن أن يستخدم الجيش العنف وعدم اكتراثه بالسمعة الدولية، وهذا يمكن أن يكبح الرغبة في التعبئة”.
نكث الجيش بتعهد قطعه سنة 2015 بإرساء حياة ديمقراطية مدنية يظلّ فيها للجيش نفوذ واسع في الحكم. وكما هو معروف، وقفت أونغ سان سو تشي –رئيسة الحكومة- إلى جانب الجيش في حرب عرقية عنصرية دينية خاضها ضدّ أقلية الروهينغا، الذين لم يُحرموا من المواطنة والتصويت والحقوق المدنية فقط، بل هُجّرت أعداد كبيرة منهم خارج البلاد بلغت أكثر من 900 ألف. ولكن جنرالات الجيش في ميانمار عادوا إلى سالف عهدهم في اللجوء إلى الانقلاب العسكري على الحكم المدني، وتذرّعوا هذه المرة بوقوع تزوير على نطاق واسع في الانتخابات التشريعية التي جرت مطلع تشرين الثاني الماضي وأسفرت عن فوز ساحق لحزب سو تشي، والتي تمّ اعتقالها مع عدد من قيادات الحزب والشخصيات المدنية في الحكومة. وذريعة التزوير لا تصمد أمام المنطق البسيط، بالنظر إلى عدد المقاعد الضئيل الذي أحرزه واجهة الجيش حزب “التضامن والتنمية” والذي لم يتجاوز 33 مقعداً مقابل الحزب الحاكم الذي نال 396 مقعداً. كذلك فإن الانتخابات شهدت أصلاً تغييباً فاضحاً لعدد غير قليل من الإثنيات التي قرّرت مفوضية الانتخابات حرمان مناطقها من التصويت، متذرعة بأنها لن تشهد اقتراعاً نزيهاً. ومن الغريب أن الجيش كان قد أقرّ ضمناً بنتائج هذه الانتخابات، ومن بينها نسبة الـ25 بالمئة المخصّصة له، وذلك في جلسة مبكرة عقدها البرلمان الجديد بعد انتخابه بوقت قصير.
قيادة الانقلاب الراهن كرّرت الذرائع ذاتها التي سبق أن ساقتها قيادات الجيش البورمي التي حكمت البلاد منذ استقلالها عن الاستعمار البريطاني في سنة 1948، كما أعادت تكرار الأسطوانة ذاتها التي عزفها قادة انقلاب 1962 عندما أسقطوا حكومة وليدة لم تتمتّع إلا بعقد واحد من الحكم المدني. وهكذا تولى قائد الجيش الحالي استلام السلطة الفعلية وأعلن فرض حالة الطوارئ لمدة عام وتعهد بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، لكن الجيش في الوقت ذاته شنّ حملة اعتقالات واسعة النطاق وعطّل البث التلفزيوني وتقطعت خدمات الهاتف والإنترنت وحركة المطارات، كما ألمح قائد الانقلاب إلى احتمال إبطال دستور 2008.
وكان اتفاق 2015، والذي ظلّ فيه للجيش نفوذ واسع في الحكم، أسفر عن إنهاء 15 سنة من الإقامة الجبرية التي فُرضت على أونغ سان سو تشي. وهذا الخيار في المقاومة السلمية أكسبها شعبية سياسية وأخلاقية داخل بلادها وفي العالم بأسره، ومنحها جائزة نوبل للسلام سنة 1991. لكنها خسرت مقداراً غير قليل من تلك المكانة حين وقفت لاحقاً إلى جانب الجيش في الحرب ضدّ أقلية الروهينغا. ويتحدث جيش ميانمار بأنه سيستخدم انقلابه الأخير لإصلاح تآكل قوته السياسية ونفوذه، وستلعب وتيرة العودة إلى الحكم المدني دوراً مهماً في تحديد ردّ فعل القوى العالمية العازمة على الحدّ من فرص الصين في تعزيز مكانتها في بلد له أهمية إقليمية.
انقلاب مدعوم بالدستور
جاءت السيطرة على السلطة في أعقاب مزاعم عسكرية عن “10 ملايين” مخالفة في التصويت في انتخابات تشرين الثاني 2020، والتي قرّرت “لجنة انتخابات الاتحاد” في 28 كانون الثاني الماضي أنها كانت حرة ونزيهة، ما سمح ببدء الجلسة الأولى للبرلمان الجديد في 1 شباط الجاري. ومنذ 26 كانون الثاني الماضي، كان الجيش يلمح إلى احتمال وقوع انقلاب، وظهرت تقارير عن تحركات غير عادية من قبل قوات الأمن في مناطق رئيسية، بما في ذلك يانجون ونايبيداو. وفي 1 شباط، قال جيش ميانمار إنه سيحتفظ بالسلطة لمدة تصل إلى عام واحد للتركيز على معالجة مشكلات الانتخابات، وكبح “كورونا” وكذلك استعادة “السلام” في النزاعات بين المسلحين العرقيين والحكومة، قائلاً إنه عندما تنتهي هذه المهمات، ستجري انتخابات عامة تشارك فيها أحزاب مختلفة. وصمّم الجيش بعناية دستور ميانمار لتمكينه من السيطرة حسب الحاجة والحدّ من الحكم المدني، ويحتوي القسم 417-418 من الدستور على بند يشرعن الانقلاب عبر إعلان حالة الطوارئ لمنع “تفكك الاتحاد”. وسوف يستفيد جيش ميانمار من الانقلاب لدحر عقد من المكاسب الانتخابية للأحزاب المدنية والحدّ من قوتهم المستقبلية، وبالنظر إلى الدور الدستوري القوي بالفعل للجيش، فقد يختار القيام بذلك دون اضطرابات كبيرة، بالرغم من أن تدخله سيكون له عواقب طويلة المدى على السلطة المدنية.
خيارات الجيش وتداعياتها
من المرجّح أن تؤدي بعض الاضطرابات إلى دفع الجيش باتجاه التجهيز لجولة جديدة من الانتخابات، مع وضع ضوابط تحدّ من نشاط الاحتجاج والآفاق السياسية لـ”الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية”، ويعتبر هذا الخيار جذاباً لأنه يتجنّب الضغط الدولي من خلال شق طريق واضح للعودة إلى الحياة الطبيعية، مع الاستمرار في تأديب “الرابطة الوطنية”، كما سيسمح استمرار جائحة “كورونا” للجيش بتبرير التأخير في الاقتراع حسب الحاجة. ومع ذلك، فإن هناك مساراً أكثر تكلفة قد يؤدي إلى إلغاء الجيش للدستور كلياً لفرض نظام جديد من شأنه أن يسمح بمزيد من السيطرة العسكرية المباشرة في البرلمان، كما هي الحال في تايلاند. ويمكن لحركة احتجاج عامة كبيرة أن تدفع الجيش إلى حملة قمع قاسية يمكن أن تدفعه نحو سيناريو الاستيلاء على السلطة على المدى الطويل.
وبطبيعة الحال، فقد لقي الانقلاب تنديداً واسعاً من واشنطن والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وفي مختلف أنحاء العالم، ومطالبات بالإفراج الفوري عن المعتقلين، وفي مقدمتهم رئيس البلاد ورئيسة الحكومة سو تشي، علاوة على تهديد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باتخاذ إجراءات حاسمة وفرض عقوبات ضد الانقلابيين، فيما دعت الصين الجميع إلى حل الخلافات “في إطار الدستور” لتجنّب الفوضى، وشاغلها الأساسي أمن الحدود، وهو أمر يمكن للجيش الحفاظ عليه.
يبدو أن ميانمار، التي خرجت قبل حوالي عشر سنوات (منذ 2010) من نظام حكم عسكري استمر لعقود، لم تتمكّن من الصمود طويلاً في ظل نظام حكم جديد ومركب يعطي هامشاً واسعاً للمؤسسة العسكرية المتنفذة، وآخر لحكومة “ديمقراطية” منتخبة برعاية غربية، إذ إن اتفاق تقاسم السلطة الذي طبق عام 2015 لم يراع الاختلالات والثغرات الكثيرة في الدستور، كما أن هذا الاتفاق، بحسب بعض الخبراء والمحلّلين، “أنتج نظاماً هجيناً غير استبدادي تماماً وغير ديمقراطي تماماً، وقد انهار بفعل ثقل تلك التناقضات”.
وهكذا، من المرجّح أن تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على العلاقات مع حكومة ميانمار إذا اختار الجيش طريقاً أقصر وأكثر تحديداً للعودة إلى السيطرة المدنية. ومع ذلك، قد تجبر حملة قمع صارمة أو تغييرات منهجية شديدة واشنطن والحكومات الغربية الأخرى على عزل البلاد. وبعدما هدّدت بفرض عقوبات جديدة، صعدت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لهجتها مؤخراً ضد ميانمار، في أول اختبار دولي للرئيس الأميركي الجديد. وقالت مسؤولة أميركية: “خلصنا إلى أن أونغ سان سو تشي زعيمة الحزب الحاكم في ميانمار ووين مينت رئيس الحكومة المنتخب أقيلا في انقلاب عسكري”. ويعطّل هذا القرار تقديم المساعدة المباشرة لدولة ميانمار، لكن هذا القرار يبقى رمزياً لأن الجيش يتعرض أساساً لعقوبات منذ الفظائع التي ارتكبها جنوده في 2017 ضد أقلية الروهينغا، في أزمة دفعت بمحققي الأمم المتحدة إلى اتهام ميانمار بارتكاب عمليات “إبادة”.