فيلم “أخوة الريح”.. السينما النظيفة الممتعة
ما الذي يجمع عالم الحيوان البريّ في بيئته وعالم الإنسان في بيئته أيضاً؟ هل الخوف حاجز وهميّ بينهما؟ هل ثمة قواسم مشتركة بين العالمين؟ هل من الممكن للمصائر أن تتوحّد بين العالمين؟ ما الذي يقدّمه كل عالم منهما إلى الآخر؟ وهل العلاقة بين العالمين باختلاف مفرداتهما يمكن لها أن تكون مثمرة وجيدة لكل منهما؟. هذه وغيرها من الأسئلة المهمّة في سياقها، يطرحها فيلم “أخوة الريح” المأخوذ عن رواية للكاتب “أوتمر بينكر”، سيناريو “جوان راي، جيرالد سالمينا”، ومن إخراج “جيراردو أوليفز”، والجواب على هذه الأسئلة غير المباشرة التي يطرحها الفيلم بشكل غير مباشر أيضاً، سيكون من خلال قصة شيقة، ملهمة، تجمع بين كل من صبي يتيم الأم، ونسر صغير خسر عشّه بعد أن قامت عوامل الاختيار أو التفوق الطبيعي –البقاء للأقوى- بخسارته لعشه وهو فرخ صغير، بعد أن قام أخوه البكر وتحت نظرات أمه، برميه من العش إلى موت محقّق فوق أرض الغابة، تتدخل الطبيعة ويعثر الفتى “لوكاس” (مانويل كاماشو)على الفرخ، فينقذه ويطلق عليه اسم “آبل- هابيل”، في حبكة ميثيلوجية لها إيحاتها المعروفة في الذاكرة الجمعية عند عموم المشاهدين، القسوة أيضاً هي من مفردات حياة الفتى، بل هي المفردة الأثقل على وجدانه، والد “لوكاس” يلقي عليه باللوم لوفاة أمه في احتراق منزلهم الريفي على سفوح جبال الألب، الوضع الذي سيؤدي لاختبار الفتى للعديد من المتغيّرات النفسية الحادة والعنيفة، والتي كادت تمزق ثقته بالحياة برمتها، إلا أن للطبيعة أيضاً التي رتبت هذا اللقاء بين عالم الإنسان والحيوان البرّي، رأيها المختلف، فكل منهما سينقذ الآخر من محنته، لوكاس بالاعتناء بالفرخ وإطعامه وتدريبه على الطيران، و”هابيل” بتحقيق حالة من الانسجام العالي بين لوكاس المكلوم والطبيعة بمفرداتها الواضحة، وسيكون طيران النسر الملكي وقد صار كبيراً، هو المكافأة المهيبة التي ينالها الفتى –الأمل-، يحلق النسر فارداً جناحيه في سماء الألب الخلابة، وهذا الطيران الناجح بعد عدة إخفاقات، يحقّق رمزيته غير المباشرة، بكونه استعادة الفتى لوكاس للثقة بنفسه، وتعافيه هو أيضاً من صدمة الحادث الأليم ولوم الأب.
الإيرادات العالية التي حقّقها فيلم “أخوة الريح” الذي تدور أحداثه عام 1960 وتمّ عرضه عام 2015، تدل بوضوح على أن ما يتمّ تناوله في الأفلام التي تعمل على الجذب اعتماداً على نجومية تلك الفنانة أو ذاك النجم، ليس وحده ما يجلب الجمهور ويطغى على الذائقة، كما أنها تحقّق أيضاً بديهية أن الصناعة المتقنة للفيلم السينمائي على مستوى السيناريو والأداء والصورة والموسيقا، وهي الأهم من بين مختلف وسائل الجذب الفني، تلك التي تُغرق فيها سوق الصناعة السينمائية العالمية –هوليود، بوليود- العالم برمته، بالأفلام التي تعتمد عليها، كالإغراء على سبيل المثال لا الحصر، في فيلم لا يحتمل نوعه الإغراء كالرعب مثلاً، وعلى تلك العوامل “الجذابة” التي لا تتعلق بجودة الورق أو الأداء، صارت تقوم هذه الصناعة الخطيرة، التي وصلت ارتداداتها العنيفة إلى السينما العربية -المصرية منها كونها الأكثر وفرة- وكان من هذه الارتدادات العنيفة، ظهور معظم الأفلام العربية، باعتمادها الجنس والمخدرات والبلطجة كثيمة أساسية فيها.
يشارك في الفيلم أيضاً الممثل السينمائي الفرنسي من أصول إسبانية “جان رينو”، الذي يحضر بشخصية لها رمزيتها الميثولوجية أيضاً، فهو الراوي للأحداث، ويلعب دور “حارس الطرائد”، الرجل الستيني الذي سيعتني بالفتى وبالنسر معاً بداية بشكل متقطع ثم بشكل متواصل، سيكون لوجوده أثره الحاسم في حياة كل منهما، إن كان من خلال النصائح حول تربية النسر الملكي، التي يقدّمها للفتى عن عالم البرّية الذي يعرفه جيداً، وما يساعد به من إحضار للضروريات من طعام وشراب، إضافة إلى حضوره الرمزي كراعٍ للعالمين بعد اجتماعهما في ظرف استثنائي واحد، ظرف، الألم والقسوة واختبار الفقد والأمان هو ما يكتنفه، ولتكتمل هذه التحفة السينمائية بمختلف تفاصيلها، بالنهاية البديعة لسياق الأحداث المتواتر، الفتى ببداية تعافيه من حزنه، والنسر بتحقيقه الطيران في السماء التي تدور صراعات عنيفة بين النسور على سيادتها، والتي كان من أثرها أن فقد أباه، فصار أمر رعايته من قبل أمه غير ذي شأن، بعد أن صار جلب الطعام وإطعام الفرخين عبئاً ثقيلاً عليها وحدها؛ لوكاس خسر أمه و”هابيل” قام أخوه “قابيل” برميه من العش بعد أن خسر أباه، لكن اجتماعهما سيحقق التعافي لكل منهما.
“أخوة الريح” من الأفلام التي تحقّق متعة عالية للمتفرج، فتوظيف المشاهد الطبيعية الساحرة لسفوح وقمم جبال الألب، من زوايا تصوير بارعة، يبيّن تفوق المخرج في تصوير المشاهد الصعبة لحيوانات الغابة والتي يوظّفها في سرد أحداث الفيلم أيضاً، عبر مشاهد تفصيلية لحكاية النسر وكيفية معاناته للتأقلم مع عالمه، آخذاً المتفرج في رحلة بصرية بديعة ومريحة للنظر، وهو يشاهد قصة جميلة فيها من الرمزية ما يجعلها أكثر من مجرد حكاية واقعية، وفيها من الواقع ما يحقّق المتعة والتشويق والجذب، دون الحاجة إلى أي عوامل جذب زائدة عن الحاجة، وبعيداً أيضاً عن الثرثرة المجانية للشكل على حساب المضمون، والعكس صحيح.
تمّام علي بركات