تداعيات مربكة
سلوى عباس
كان في أول تفتح ربيعه عندما أطلت ببنطالها الليموني وقميصها الأبيض الهفهاف المزهر بورود صفراء ربيعية، فبدت اللحظات حينها متسربلة بالهناء مفعمة بفرح خفي لا يترجم واشتعلت شموس روحه، فبادرها الحديث مشبهاً إياها بـ “زهرة الليمون” انهمرت إليه كغيمة معمرة بالغيث وديعة بيضاء الروح، خفق فؤاده للقائها كثيراً في ليال من سهد واحتباس، كرمانة نمت في العتم ثم حين احتواها النهار انفلقت عن حب غزير دامع بنشوة الصباح، لم يدر كيف اتسعت هذه اللحظة لكل ما انتابه من أحاسيس تجاهها، وكأن الأقدار ساقت زورقه الصغير إلى شاطئ الفردوس فلم يكن يجرؤ إلا أن يداري جنونه عن منابع الفرح المضيء ومصنعات الغبطة، ولم يكن عبثه يطاوعه عن أن يرد صفحة الماء اللجين كي لا يكسر لمعانه وصفائه الرائعين، فأخذت لقاءاتهما تتوالى وقد ألف حضورها في حياته، فكان يكلمها وكأنها مرآته، أو كأنها حاله الذي يعود إليه كثيراً ويناجيه حقائقه واختلاجاته.
في لحظة من عمر الزمن أخذتهما الحياة كل في طريق، ليعود بعد سنوات ويلتقي بها، فيتبادلان التحية والسؤال عن الحال والأحوال، وبعدها يفترقان لتأخذهما الحياة في مساربها وزحمتها، لتركن في ذاكرته البعيدة صورة تلك الصبية التي نثرت عبق ليمونها فواحاً في أرجاء روحه.
قد يحدث أن تكون حياتنا عميقة كسر البحر، أو أن نتحول مع الزمن إلى سراب كالزبد، ويحدث أن لا نكون أحدهما ونكون الوهم، فنلجأ إلى صباح يسند قلبنا الذي أوجعته الوحدة بسر الكلمة، وابتسامة طفل تخرج من بين شفاهه الأحرف فراشات، فلنتصدق بالبياض عندما يطاردنا الألم، لتورق دروبنا بالحب نمطر به قلوباً قمحية الفوح لتنهض من نومها شمساً، فالصباحات مملة إذا لم تشرق قلوبنا بنور براءتنا البكر، لأنها اللغة الأجمل للحب..
****
تمعّنت في المرآة ملياً تستقرىء خبايا روحها، وتبثّها تداعياتها المربكة، كيف تستعيد الزمن الذي دفعت ثمنه من عمرها وحياتها، كيف لها أن تغيّر ملامح عمر، وفي كل خلية من جسدها ندبة تركتها الحياة، لتكون زوادتها في سني عمرها، هل للمرآة أن تحدثّنا عن حالنا، عن أيامنا، هل يمكن أن تكذب علينا، هل يمكن أن نكون صادقين مع أنفسنا أمامها، فإذا كنا نتحايل على المرايا العاكسة لصورتنا، كيف لنا أن نهرب من مرايا أرواحنا التي من خلالها نتعرّف إلى حالتنا، حين نقف مع أنفسنا نفتّش عن ذواتنا أين أصبنا وأين أخطأنا، تلك المرايا هي مرايا صدقنا مع محيطنا الذي مهما ابتعدنا عنه يبقى يلاحقنا. وأيقنت أنّه كُتب عليها الوصول متأخرة، وأنّ الحياة جرفتها في تيارها، فينتابها إحساس بالعجز عن فعل أي شيء بعد هذه المأساة التي عاشت ظلمتها لسنين، هذه التجربة القاسية والحزينة لم تترك للحلم فرصة أن يتصالح مع حياة مزدحمة بالمتاهة والألم.. حياة تضيّق خناقها على كل حلم قد تفكر فيه..
سألت نفسها: كم من الأعوام والبشر قضوا في هذه الحرب التي عشناها جميعاً بقهر واستغلال وحصار، حتى أمها التي كانت كل مصدر قوتها في الحياة غادرت قهراً وكمداً على غيابها.. أمها التي أرقتها أساليب العذاب التي تتعرض لها ابنتها فرحلت مختنقة بحشرجة لهفتها وخوفها عليها.. رحلت بيقين أنها ستلتقي بها في السماء.. ربما رحيل والدتها كمداً عليها يوازي بالنسبة لها كل ما عاشته من ظلم وقسوة، فما كان يمدها بالقوة أنها ستخرج يوماً لتستسمحها وتستغفرها عن كل القهر الذي تسببت لها به.. لكن الزمن لم يمهلها، ليبقى الحزن سواد قلبها ورفيقها الأبدي.