الشيخوخة الإبداعية
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
تعددت الآراء حول الإبداع والفن وعلاقتهما بالحياة، وكان أن طرحت فكرة شيخوخة الإبداع التي تباينت الآراء حولها، فهناك من رأى أن الإبداع لا يشيخ ولا يقاس بعدد السنين، وهناك من انطلق من فكرة أن كل شيء يبدأ بكامل توهجه وعنفوانه ثم يتدرّج بالخفوت حتى يتوقف، وتساءل آخر عمّا إذا كان للقلم والكتابة عمر تقاعدي يشبه حالة التقاعد الوظيفي، وهل يمكن أن يأتي وقت يموت فيه القلم الذي هو مرآة صاحبه، وطرح سؤالاً آخر عن صحة المقولة التي تؤكد أن لصوت الفنان “انتهاء صلاحية” تجعله يتنحى عن الغناء ويفكر في الاعتزال؛ فرغم الاعتقاد السائد بأن الصوت يزداد نقاوة وقوة مع العمر، فإن الطب له رأي آخر في هذا الموضوع، إذ يُحدّد “صلاحية صوت” الفنان عندما يصبح في سن الـ 60، فيشيخ صوته ويفقد السلطة الطربية التي يمارسها سنوات وسنوات على معجبيه. ويلاحظ وجود قوة صوتية لافتة لدى الرجال أكثر من النساء، لأن المرأة تصاب بضعف مبكر في حنجرتها، على عكس الرجل الذي – رغم تقدّمه في السن – يحافظ على رنات وترية منتظمة، وهذا الكلام منافٍ للحقيقة إلى حدّ ما؛ فإذا أخذنا الجانب الإعلامي المرئي أو المسموع الذي يمثل الصوت أداته الأساسية، نرى الكثير من الإعلاميين والإعلاميات المخضرمات اللواتي ما زال صوتهن حاضراً بكامل بهائه وكأنهن بعمر العشرين، ما يؤكد أن الصوت لا يشيخ.
بالتأكيد للعمر ضريبة، وضريبته أشد على المطربين الذين يعتبر صوتهم “رأس مالهم” الحقيقي، في مسيرتهم الاحترافية، والرافعة الأهم في ثلاثية “الصوت والكلمة واللحن” لإيصال الأغنية للمتلقي، حيث يلامس إحساسه ويرتقي بذائقته؛ ولنا في الوسط الغنائي العربي أمثلة كثيرة عن المطربين الذين تسيدوا الساحة الفنية بأصالتهم الطربية، كـ “أم كلثوم” التي قال عنها الموسيقار محمد عبد الوهاب “الألحان الكلثومية وجدت للحنجرة الكلثومية، فلون أم كلثوم يعتمد على قفلات الطرب، وهي أقدر الجميع على أداء القفلة التي تعتبر أصعب امتحان للصوت، والتي تحتاج إلى شجاعة وإحساس عميق، وصوت سليم مدرب وقوي، وهذه المزايا من الصعب أن تتجمع في حنجرة واحدة بعد أم كلثوم، كما أنها المغنية الوحيدة التي جمعت بين القوة والعاطفة والحساسية في صوتها، والصوت الوحيد الذي تمرد على الميكروفون”، ويضيف محمد الموجى: “إن صوت أم كلثوم يكفل الحياة لأي لحن.. إنها معجزة لن تتكرر ولا كل ألف سنة، لأننا لسنا في زمن المعجزات”.
أما السؤال عمّا إذا كانت الكتابة تشيخ بشيخوخة الجسد، وتنتج ما يسيء إلى تاريخ الكاتب، بدلاً من الإضافة الحقيقية إلى هذا التاريخ؟ وإذا طَبَّقْنا هذا المبدأ على المسألة الإبداعية، التي تشكل الذاكرة جزءاً كبيراً وحيوياً منها، نجد بالفعل مراهقة إبداعية، وصبا وفتوّة، وعمراً ناضجاً متوهجاً، ثم عمراً آخر يتَّسم بالنسيان، وبالتالي كل ما ينتج فيه إما إعادة لما كتبه المبدع من قبل أيام عندما كان متوهجاً، وإما كتابات بدائية، ينقصها كثير من التحليق، وكثير من خيال الكتابة الحقة؛ وفي تاريخ الكتابة الطويل، توقف كثيرون عن الإبداع بمحض إرادتهم، بمجرد بلوغهم سنّاً معينة؛ وكان هذا – من وجهة نظري – خوفاً من خوض تجارب جديدة لا ترقى إلى مستوى تجاربهم السابقة، بينما استمر آخرون في الدرب، غير عابئين بما قد تحدثه تجاربهم الجديدة في أذهان عشاق عرفوهم من قبل، وأحبّوهم كثيراً.
انطلاقاً من كل ما سبق، يمكننا القول إن الإبداع لا يحكمه عمر محدّد، بل بالإمكان القول إن عملية الإبداع تحتاج إلى تجديد المعطيات التي تجعل الإبداع متجدّداً، كأن يستمر الكاتب بمتابعة المستجدات على الساحة الثقافية والأدبية، بما يجعله في حالة تجديد لأدواته وتقنيات الكتابة التي تجعل نصّه نابضاً بالحياة.