مجلة البعث الأسبوعية

شعر حزين متوحش ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق.. المطعون والمسحوق تاريخياً!! سنية صالح.. الياسمينة التي انتظرت “عبثاً تحت المصباح” فخطفها الموت مبكراً!!

“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس

هي امرأة الدهشة والحلم، تلك الطفلة التي تخرج إلى بياض الورق، تسكب عليه عالمها الملون بزركشات الطفولة، فتبدو كما حورية تقشر الضوء عن النجوم، تدخل عالم الكتابة من بوابة الغبطة، فتنهمر الأفكار كما المطر، وتقطف من بساتين الحياة عناقيد المعرفة؛ أغوتها الحكاية، فنسجت من الحلم عالماً ملوناً بالتفاؤل والأمل.. إنها الأديبة سنية صالح التي مثلت بإبداعها رمزاً من رموز الأدب النسائي السوري، كانت تنهل إبداعها من الواقع، وتطعمّه بخيالها الخصب، بأسلوب بسيط ولغة واضحة.

أقبلت سنية صالح “1935 – 1985” على كتابة الشعر والقصة القصيرة في مرحلة مبكرة، ونشرت عشرات القصائد والقصص في المجلات والصحف، ولقيت كتابتها التقدير، إذ فازت بجوائز عديدة، وتميز إبداعها بمستواه الفكري والفني، فقد تجاوزت النزعة النسوية إلى العناية بالمنظومة القيمية الإنسانية والأخلاقية، بما يجعل من قصائدها وقصصها خطاباً حوارياً عن إشكالية الوجود القاهرة.

ولدت سنية صالح في بلدة مصياف، عام 1935، وفقدت أمها وهي طفلة، ودرست الأدب الانكليزي في لبنان، واضطرت لمغادرة الجامعة بسبب أحداث لبنان عام 1958، وعادت إلى معرة معرين حيث كانت وظيفة والدها، وتعمل في حلب لمساعدة أسرتها. وفي العام 1961، نالت جائزة جريدة “النهار” لأفضل قصيدة.

 

الماغوط

انتسبت إلى قسم اللغة الانكليزية في جامعة دمشق عام 1962، والتقت محمد الماغوط في لبنان عام 1963 الذي كتب حينها رسالة خاصة إلى أختها الشاعرة خالدة سعيد، زوجة الشاعر أدونيس، جاء فيها: “أيتها العزيزة خالدة، منذ شهور وفكرة واحدة تضرب رأسي وأعصابي كالرصاصة: ما هو العالم لولا تلك الإلهة النّحيلة، تلك الإلهة الرقيقة الحنونة، تلك التي سُمّيت صدفة سنيّة، والتي كان يجب أن تُسمّى “العالم يبكي”، أو العالم ذو القدمين الصّغيرتين. خالدة، لتذهب الكلمات الشعريّة إلى الجحيم. سنية حياتي. آه يا خالدة، أنت شقيقتها! هل تأمَّلتِ أصابعها ذات يوم؟ أبداً. إنه جاهل وطائش كلّ من يقول إنها أصابع.. إنها مجموعة مشرّدة من القيثارات. أبواق بدائية تغنّي لوحوش تقوّست ظهورها من الزمهرير والوحدة.. أروع ما في سنية روحها.. إنني أستطيع أن أراها تماماً.. كما أرى قطرة المطر وراء الزّجاج، كما أرى الطائر بين الأغصان”.. تزوجا لاحقاً عام 1967.

نقل الكاتب إيلين كركو عن الماغوط قوله: “سنية هي حبي الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت معي ظروفاً صعبة، لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة، وأكبر من كون، ربما آذاها اسمي فقد طغى على حضورها، وهو أمر مؤلم جداً”.

في العام 1988، كتبت الشاعرة خالدة سعيد في مجلة “موقف”، مدافعة عن شقيقتها: “طالما قيل عن سنية صالح بأنها متأثرة بزوجها محمد الماغوط، وهذا كلام جاهل بالشعر والقراءة جهلاً فادحاً. هناك دائماً بعض المفردات أو العناصر المشتركة بين أبناء الجيل الواحد بسبب شفافية الشعراء، ونفاذية لغتهم، وسيادة هواجس معينة في مرحلة زمنية معينة، مع ذلك لها ملامحها التي لا تشبه فيها أحداً، شقت طريقها إلى التميز وسط التجاهل والغبن والنكران، وفي أسرة التقى فيها أدونيس والماغوط، بينما عشرات الشعراء حول العالم العربي يصارعون للتخلص من سحر هذا أو ذاك”.

وفي مقدمتها للأعمال الشعرية الكاملة للشاعرة سنية صالح، تقول خالدة: “هو شعر على حدة، لا يشبه أحداً، وليس منضوياً في تيار، شعر لحزن متوحش ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق، المطعون المسحوق عبر التاريخ، بقدر ما ينشد حكاية المغدورين يتقدّم كصيحة للجسد الذي انتهى بين المباضع وأسرّة المشافي، وهي من الشعراء الذين علقوا الخط الفاصل بين مستوى الشعر ومستوى الحياة، وشعرها وضع معنى لحياتها في مدار العام الإنساني وأعطاها بعداً جديداً”.

وكانت سنية قالت قبل مجموعتها الأخيرة “ذكر الورد” بسنوات: “ليس لي أي طموح من أي نوع كان.. أنا أعجز من أن أغيّر العالم، أو أجمّله، أو أهدمه، أو أبنيه، كما يقول بعض الشعراء!! ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟ إنما أحتفظ لنفسي بحرية الحلم والثرثرة..”.

 

خطابها الشعري

عبرت سنية صالح في مجموعتها الأولى “الزمان الضيق” عن الإحساس المأساوي بالحياة وقلق الوجود إزاء غياب الحرية، ويكاد شعرها يندرج كله في الخطاب الذاتي المؤرق بوجدانيته العميقة ومؤثرات اشتراطات التجارب الموجعة على النفس، كما في قصائد “الجرح والرؤيا”، و”الموت العظيم”، و”البراري النائمة”، و”أرض الصمت”، وأفصحت قصيدة “جسد السماء” عن الأرض البوار وهواجس الذات الفاجعة في مضيق الأوجاع:

“بين التوهج والانطفاء تركنا رؤوسنا..

فوق حقول الصبير والجلبان..

مرت شفاهنا..

وما من كلمة تقال”.

ووجدت في قصيدة “فصل الحب” الزمان ضيقاً، وأضيق منه جسد المحبين، والمصابيح مطفأة في منفى القلب، ما جعل المرأة تحتضر إذ يطاردها موت الحياة بسيوفه الحزينة:

“يا حبيبتي، موتك هزيمتي الكبرى..

وعويل بشر لانهائي”.

وأظهرت قصيدة “حقائب السفر الأخير” مكابدة الإنسان لأحزانه، فلا يملك المرء “سوى النحيب”.

ومن الواضح أن قصيدة النثر عند سنية صالح قائمة على الكثافة والتوهج والفضاء الواسع لاحتضان التجربة البشرية في فيوض المعاناة ودلالاتها العديدة إدخالاً للمحاكاة في الإيجاز والمجاز والانفتاح اللازمني.

وظفرت مجموعتها الثانية “حبر الإعدام” بعذاب الروح في أوجاع التاريخ ومرارة الواقع وقصف الحزن وانتكاس الأسى، ما يثري علاقة الصورة الشعرية بالدلالة، وهذا جلي في غالبية قصائد المجموعة، وأومأت القصيدة الأولى “الدماء الدافئة” إلى المجازية في تصوير خريف الحياة الدائم.

“ليس لنا الخيار بمجيء الليل..

عبثاً تنتظرين تحت المصباح..

السماء مغلقة بالظلام..

والأرض مدوسة بالصمت”.

وروت قصيدة “حبر الإعدام” ما واجهته جوليا أبينولا الكاهنة الشابة التي ماتت بعد وفاة أبيها بقليل، فقد حكم عليه بالإعدام، وحاولت عبثاً أن تظفر بالعفو عنه؛ وكتب على قبرها أنها لم تستطع أن تنقذ أباها من الموت بصلواتها، وقد عاشت ثلاثاً وعشرين سنة فقط، وماتت شابة قهراً إثر إعدام والدها ظلماً وعدواناً، وهاهي ذي تنادي التاريخ الذي يخسر حبره المنقذ أيضاً:

“فرح الجسد يتهدم..

الأغاني تتلاشى..

والنيران المشتعلة تحتضن بعضها..

خوفاً من المطر والرماد”.

لقد حضنت قصائد “حبر الإعدام” الأبعاد المكثفة عن الشجن الطاغي الذي يخرق الوجود ويشوه مساراته، كما في قصائد “دموع الوطن، وصليل الأزمنة، والشتاء، والاختناق، والظلام، والموت القاطع” على وجه الخصوص.

تنامى الخطاب الشعري الوجداني محاورة للذات والتجربة من خلال صوغ الأمثولة والأسطرة والإحالات الثقافية في مجموعتها الثالثة “قصائد”، التي توزعت على خمسة مدارات: الأول “شام أطلقي سراح الليل” – و”شام” هو اسم ابنتها – والثاني “هذيان”، والثالث “مستقبل من الرمال”، والرابع “طوروس القلقة” والخامس “عشاق من الرمال”، وحفلت هذه المدارات بالمعنى والدلالات المعاناة في مقارنة التداولية التي توظف الفعلية، وتدغمها بالحوارية مع الذات والعالم؛ ففي مدار “الهذيان”، وفي قصيدة “الزمن الآتي من قلبك”، تقول:

“تجهت صوب الريح التي تشبه المنجل

وتضرعت إليها ألا تقطع أوصالي

ريثما أنقضُّ على الحياة من شاهق

وأظل أغوص فيها

حتى أعود إلى رحمها.

ولكن الريح سخرت مني

أخذت تخطفني شِلواً تلو الآخر”،

ووصفها “الحرية” بالتلاشي في قصيدة “خريف الحرية” ضمن مدار “مستقبل من الرمل”:

“مع هذه الويلات

ينام حبي في حفر الذاكرة

مع هذه الويلات

ينتشر البنفسج الرائع فوق الخرائط الأنثوية،

ثم لمَ لا يلبث أن يعبرها

باعثاً بجذوره الحية إلى الأرض الخراب”.

ثم تعالق هذا الخطاب الشعري الوجداني مع الحوارية عن وعي الذات وكينونتها في المجموعة الرابعة “ذكر الورد” مرثية للحياة المهدورة والساقطة في الغيبوبة والعدم.

 

خطابها القصصي

عرفنا سنية صالح من خلال الشعر، لكنها ولجت عالم القصة بمجموعة واحدة، هي “الغبار”، نرى فيها اختزالاً يقظاً للعالم ومحاولة حذرة للامتزاج فيه، حيث يراوغ ضمير المؤلفة في صوت معلن أحياناً وطأة زمنه، ثم يوغل بالصمت أو الخسران. تنزع سنية نزوعاً طبيعياً نحو إحاطة واقعية بسلوك شخصياتها في حياة رتيبة قاسية ومقهورة، فثمة معاينة وتدقيق في وصف شرائح الحياة التي تقترب من أوضاعها الملامح الطبيعية في رؤيتها لحوار البشر والأشياء، ولاسيما مادية الدوافع الإنسانية والأنماط الشائعة والخشنة من الحياة، كالأجراء والبائسين والمنعزلين، في ظل وحشتهم وفقرهم الروحي، ممن لا يملكون سبيلاً خارج اعتياد البؤس ومرارة القبول؛ ولربما كانت قصتها المبكرة “حمروش”، والتي فازت بجائزة عربية أيضاً، أكثرها تعبيراً عن هذا النزوع الطبيعي الواضح. و”حمروش” صبي بائس يعمل كثيراً عند سيده ولا يرتاح، وثمة حمار اسمه “حمروش” – وهنا تكمن المفارقة – فيخرج حمروش الصبي وحمروش الحمار عن طاعة السيد، غير أن الصبي ما يلبث أن يعود تحت وطأة اعتياد الظلم، وهذه هي حال الاشتراطات الاجتماعية القاسية.

ولعل القوة القدرية الجامحة المستندة إلى جبروت واقع الحال، أو القوى المادية التي تصير إلى ظرف قاهر، هي الوجه الآخر لطغيان القبول والاستكانة والألم؛ وتلخص قصة “الغبار” استسلام الشخوص لتحولات أليفة في الحياة اليومية، ولكنها غامضة لا تفصح عن جوانب الدوافع الدفينة كلها في استجلاء موقفها مما تعاني لدى اندراج الدلالة في هيمنة الصراع الطبقي والاجتماعي.. ثمة رجل يخنقه الغبار الكثيف أينما ذهب، وفي بيته لا يجد إلا الوحشة والفراغ على الرغم من وجود الخادمة “مجيدة”، لأنه مشغول بهواجسه الطبقية والمعرفية من خلال الحفاظ على مظهر اجتماعي، ثم يتعاطف مع الخادمة، ويزور بيتها ويهتم بأولادها سبيلاً للخلاص.

عُنيت سنية صالح بقصصها القليلة عناية فائقة، أما جواب الإيصال فهو متداخل مع فيض الدلالات غالباً، إذ يتباين أسلوبها بين الترميز والتجنيح الشاعري والسرد الواقعي المختزل، ويسعف ذلك مقدرة واضحة على السرد القصصي لأناس مغمورين بالصمت وفقدان العدالة والمواجهة المبكرة للعالم والحس الفاجع، ففي قصة “الحياء” شحُب المصير إلى ما يخيف، إذ مات الرجل وترك وراءه قنديلاً هو رمز فقدان العدل في هذا العالم كما تعتقد زوجته حين قضى زوجها دون مسوغ على الإطلاق: “حاول إصلاح علبة معطوبة، ولكن النار تلتهم ثيابه فيموت لأن لا شيء ولا أحد له النجاة في سماء لا تمطر إلا الهموم”.

تداخلت عناصر القص فيما بينها لتجعل القصة أقرب إلى التراكم الحدثي، بينما سعت على الدوام إلى تطوير صياغة الحدث واستنطاق دلالاته في سياق مشبع بقابليات التنامي الداخلي وتبادل الأثر بين الأغراض الواحدة ووحدة الغرض، لأن فضاء النص يحتاج إلى استواء المقدرة الحكائية في تكثيف خالص للتجربة الإنسانية، ما يتيح للأغراض ان تنتظم وتحتاط لمداها البلاغي والإبلاغي من أيسر سبيل، وتبدى ذلك في كثافة القص وانتظام المفارقة فيه من أجل غنى المعنى أو القصد.

تميزت قصص سنية صالح بخصوصيتها، ولاسيما ابتعادها عن هموم القصة النسائية وشواغلها الأساسية، كالتركيز على الجانب الذاتي، ومحاورة وجدان المرأة على نحو مباشر، إزاء التحولات الاجتماعية، فكانت قصتها أقدر على مخاطبة موضوعية ارتفعت بوجدان المرأة إلى مصاف حساسية فنية يتحاور فيها الخاص والعام في عملية مراوغة للضمير الموجوع تحت وطأة الظروف الثقيلة.

واجهت سنية صالح في إبداعها الشعري والقصصي ضغوط الحياة وتجاربها العنيفة والمروعة إزاء خلل المنظومة القيمية والأخلاقية عسيرة التحقق، وعبرت قصصها وقصائدها عن رؤى فكرية عميقة.

ومنذ عامين أفردت وزارة الثقافة سلسلة خاصة بعنوان “سوريات صنعن المجد” في مكتبة الأسد، وكانت تجربة الراحلة سنية صالح ضيفة إحدى هذه الندوات التي جاءت تحت عنوان: “سنية صالح شاعرة في الظل” في مبادرة مهمة لنشر الثقافة تعبّر عن تاريخ حافل للسوريين، تاريخ يمتد إلى أكثر من عشرة آلاف عام، الثقافة بالمعنى والمفهوم المطلق والتي تشمل القصة، الشعر، المسرح، السينما، الرواية، والنساء السوريات اللواتي صنعن المجد وشاركن الرجل، وهم أكثر من قول “المرأة نصف المجتمع”، وأكثر من كونها رقماً..

للراحلة سنية صالح المجموعات الشعرية التالية: “الزمان الضيق” عام 1964، “حبر الإعدام” 1970، “قصائد” 1980، “ذكر الورد” 1986، والمجموعة القصصية “غبار” 1982، وقد كتبت المجموعة الشعرية الأخيرة على فراش المرض وصدرت عقب وفاتها اثر مرض عضال.