تداعيات “مسرحية” تبرئة ترامب!
ريا خوري
بعد التداول والصراعات البينيّة والنقاشات الحادّة داخل الكونغرس الأمريكي والبنتاغون ومجلس الأمن القومي والاستخبارات الأمريكية FBI، تمّ التعبير بدقة عن أن عملية محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب وتبرئته كانت مجرّد “مسرحية” هزلية.
قد يكون توصيف صحيفة “فايننشيال تايمز” الأمريكية لمحاكمة ترامب وتبرئته، بأنها تبرئة “معيبة” أمراً منطقياً وحقيقياً، لكن هذا ما حدث ولن يقف حائلاً أمام الحقيقة الأكثر أهمية التي تطارد الجميع في الولايات المتحدة من قادة ومواطنين، وهي أنّ ترامب ما زال قوياً جداً، وما زال رقماً صعباً في الولايات المتحدة، وأنّه يقود التيار الأقوى داخل الحزب الجمهوري مدعوماً بأكثر من أربعة وسبعين مليون شخص صوّتوا له وداعمين لبرنامجه الانتخابي، وأنّه سيبدأ مرحلة جديدة من الصراع السياسي داخل الولايات المتحدة، سواء بمواجهة الجمهوريين المعارضين له والمستائين منه، أو بمواجهة الحزب الديمقراطي.
عندما تمّ وصف المحاكمة بأنها “مسرحية هزلية” كانت تعتبر بحق حسب المراقبين بأنّها إحدى حقائق المحاكمة فعلاً، فأعضاء فريق الدفاع عن ترامب تركوا القضية الأساسية التي هي الحقيقة الكبرى التي لا يمكن التملّص منها، أي أن ترامب طرف أصيل في جريمة الاعتداء المنظّم والمدروس على مبنى الكونغرس الأمريكي، أو على الأقل باعتباره محرضاً وداعماً مباشراً وداعماً غير مباشر عن طريق قوى أخرى جرى تنظيمها وتدريبها وتمويلها بتوافر الأدلّة المادية، وهي الجريمة التي اعتبرت جريمة متكاملة، والتي تعتبر اعتداء سافراً على الدستور الأمريكي وعلى القسم الذي أداه أمام الجميع. وركّزوا على الجانب الشكلي فقط، أي على حجة عدم دستورية المحاكمة انطلاقاً من أنّ ترامب لم يعد رئيساً للولايات المتحدة حتى تتمّ المطالبة بعزله، وأنّه بات الآن خارج منصبه كرئيس. كما لم يناقشوا الجريمة الفعلية التي هي الاعتداء على الكونغرس والتهديد بإفشال حفل تنصيب الرئيس جو بايدن وهي التي تستوجب الإدانة، وركّزوا على عدم صحة الإجراءات المتّبعة التي وصفوها بأنها غير دستورية، وزادوا على ذلك استنباط رأي آخر سعوا إلى ترويجه بشكل واسع، وهو أنّ الديمقراطيين يدركون عدم صحة المحاكمة لكنهم يواصلونها لأغراض انتقامية من شخص ترامب الذي صوّت له بالانتخابات الرئاسية أربعة وسبعون مليون صوت، ومحاصرة دوره المستقبلي.
لا يمكن تبرئة الديمقراطيين من مسؤولية فشل الإدانة، فهم منذ البداية عاشوا وهم الإدانة التامة الذي يشترط انحياز سبعة عشر عضواً جمهورياً إلى جانب الديمقراطيين الخمسين، وهذا الشرط يعلمه الجميع، وأنه شرط غير متوفر نهائياً ومن الصعب أن يتحقق، وعلى الرغم من ذلك واصلوا مشوار، أو مسرحية المحاكمة -على حدّ وصف الكثير من النواب- لذلك بات واضحاً بشكل لا يترك مجالاً للشك أنه: لماذا ذهب الديمقراطيون إلى خيار المحاكمة وهم على يقين بأنّ نتيجتها خارجة عن إرادتهم وأنها لن تحقق النجاح؟.
وهنا يبرز السؤال الأهم وهو: لماذا أفشل الديمقراطيون مشروع محاكمتهم لدونالد ترامب بالإساءة المبكّرة إليه، والقول علناً وصريحاً إنّ المحاكمة تهدف بشكل أو بآخر إلى منع ترامب من الترشّح للانتخابات الرئاسية المقبلة عام ٢٠٢٤؟.
إن الكشف عن هذا الهدف الخطير من المحاكمة لم يتسبّب فقط بالإساءة الأخلاقية للديمقراطيين وتاريخهم العريق، بل إنّه كشف حقيقتين أليمتين تحاصران الديمقراطيين. الحقيقة الأولى، هي تأكيد الخشية السياسية المستقبلية من شخص ترامب، والخوف من كونه قد يكون مرشحاً منافساً محتملاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام ٢٠٢٤ أمام أي مرشح ديمقراطي. أما الحقيقة الثانية والتي لا يمكن التغاضي عنها، فهي وجود شعور قوي مستحكم بالديمقراطيين بأن ليس لديهم المرشح القوي القادر على منافسة ترامب إذا قرّر أن يخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وخاصة بعد اقترابه من التعادل بالأصوات في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بينه وبين الرئيس بايدن.
وعليه، فإنّ عودة الرئيس السابق ترامب ربما تكون أهم تداعيات محاكمته، وهي عودة تطرح كل مشاهد المستقبل الصعبة التي يمكن أن تعيشها الولايات المتحدة وتداعياتها الداخلية والخارجية، وربما الكئيبة أمام الأمريكيين جميعاً، لسبب أساسي ومهمّ لا يمكن إغفاله، أنها تعيد تجدّد مشهد الانقسام الذي يتهدّد الجميع، ومشهد الصراعات والنزاعات الإقليمية والدولية.