مراكز الأبحاث الأمريكية.. “همجية دبابات الفكر”
علي اليوسف
لا شك أن السياسات والأفعال هي انعكاس للأفكار التي يقدمها المفكرون والخبراء، أي أن هذه الأفكار هي التي أنتجت الممارسات الدولية وحددت معالم الواقع الذي تعيشه البشرية على كل المستويات، فالأفكار – حسب قول أوغست كونت – هي التي تحكم العالم.
وهنا من الضرورة بمكان الإشارة إلى دور مراكز الأبحاث الأمريكية التي لعبت دوراً هداماً على المستوى العالمي، كون سياسات الولايات المتحدة وجدت مرجعيتها في دراسات وتوصيات خبراء مراكز الأبحاث التي لها تأثير على صناع القرار. لذلك من البديهي هنا طرح التساؤل الآتي: ما طبيعة الأفكار التي يطرحها خبراء مراكز الأبحاث الأمريكية؟ وهل تساعد مراكز الأبحاث هذه في معالجة تحديات الراهن العالمي أم تزيد من تعميق الفجوة ومضاعفة مخاطر جديدة؟
نشأة مراكز الأبحاث الأمريكية
في كتابه “مراكز الأبحاث في أمريكا”، يحدد توماس ميدفيتز ثلاثة عوامل ساهمت في نشأة مراكز الأبحاث الأمريكية”:
الأول: كان للرأسماليين القدرة على إنشاء آلية خاصة بهم للإنتاج الفكري نتيجة الثروة التي يملكونها جراء الحقبة الاستعمارية وعقب فترة من النمو الاقتصادي السريع.
ثانياً: التوسع السريع في المنظومة التربوية الأمريكية العليا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فقد وفرت الجامعات فئة جديدة من الخبراء المعتمدين في مجالات الإدارة والمحاسبة والاقتصاد والمال والشؤون الخارجية.
ثالثاً: اعتماد ظهور مراكز الأبحاث الأولى على وجود ثقافة تكنوقراطية رفيعة المستوى داخل نخبة المثقفين الأمريكيين، ولا سيما بعض المتخصصين في العلوم الاجتماعية.
في بدايات الستينات لقيت السلطة التكنوقراطية تحديات جاءت من خلال مجموعة من النشطاء السياسيين الذين سعوا إلى الحد من قوة التكنوقراط والتحذير من إخطارهم وقد سعى كل من النشطاء اليساريين والمحافظين إلى إنشاء أشكال جديدة من الخبرة تقوم على أسس أخلاقية في مقابل الأسس الفنية الخالصة التي تقوم عليها خبرة التكنوقراط، وتجسد ذلك من خلال ظهور العديد من المراكز البحثية من اليسار والمحافظين.
يرجع توماس ميدفيتز تطور مراكز الأبحاث المحافظة على حساب اليسارية منها إلى ثلاث أسباب:
الأول: هنالك ميزة كبيرة وهي تلقي الدعم المادي من مؤسسات التجارة الضخمة،
الثاني: التحرر النسبي من توجيه الدولة الذي كان يحيط أحياناً بمراكز الأبحاث اليسارية،
ثالثاً: التحرر النسبي من استحواذ الجامعة التي أحبطت أيضاً نمو مراكز الأبحاث التقدمية.
في كتابه “سماسرة الأفكار” يحدد جيمس ألان سميث ثلاثة أجيال لمراكز الأبحاث الأمريكية:
الجيل الأول من المؤسسات الأمريكية قام حوالي 1910، مع تصاعد إصلاح المرحلة التقدمية وحركة “الإدارة العلمية”، تأسست ودعمتها التبرعات الخيرية الخاصة.
الجيل الثاني الذي كان أول من حمل عنوان “مستودعات التفكير” نشأت عندما سعت الحكومة لطلب الخبرة التقنية المعقدة لمشروع الحرب الباردة للأمن القومي والحرب الداخلية القصيرة الأجل ضد الفقر، وقد تم تقديم خدماتها للحكومة على أسس تعاقدية.
الجيل الثالث وكان أكثر عدداً، لكن أقل ميزانية وعدد العاملين، تم تأسيسها في السبعينات والثمانينات وكانت مستودعات التفكير هذه نتاج الصراع الإيديولوجي والعديد منها تتجه للنشاط السياسي والدعاية السياسية أكثر من الاتجاه للعلم والمعرفة
صنع السياسات
إن مؤسسات الفكر لا تنتج الأفكار من أجل تخزينها، وإنما تنتجها من أجل أن تتمكن الجهات المستهدفة، بهذه الأفكار من الاستعانة بها في اتخاذ القرار الصحيح وفي الوقت المناسب، لذلك فإن هذه الجهات المستهدفة تتطلع أن تقوم هذه المؤسسات بالمهام المنوطة بها، ومن أجل ذلك توفر لها الدعم المالي وتسعى هذه المؤسسات إلى حل المشاكل القائمة أو المتوقعة، ولدعم مسارات المستقبل.
وحسب ريتشارد هاس- رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية السابق- فإن هذه المؤسسات تؤثر على صانعي السياسة الخارجية بخمس طرق: توليد الأفكار والخيارات المبتكرة في السياسة، وتأمين مجموعة جاهزة من المختصين للعمل في الحكومة، وتوفير مكان للنقاش على مستوى رفيع، وتثقيف مواطني الولايات المتحدة عن العالم، إضافة إلى اعتبارها وسيلة مكملة للجهود الرسمية الدولية للتوسط وحل النزاعات.
وجاءت مؤسسات الفكر حسب طرح العديد من الباحثين لتسد فراغا في غاية الأهمية بين العالم الأكاديمي من جهة، وعالم الحكم من جهة ثانية أي بين عالمي الأفكار والعمل، وحسب رأي توماس يكون هؤلاء الباحثين قد قبلوا على الفور بتعريف مراكز الأبحاث بأنها آليات تواصل فكري. في حين أنه يرى إن الربط بين المؤسسات الأكاديمية والسياسة ساعد مراكز الأبحاث على تعزيز الانفصال بين المعرفة العلمية والسياسة أكثر مما عزز التبادل بينهما.
يلاحظ توماس ديفيرتنز أن مراكز الأبحاث تعلن استقلاليتها المعرفية في سياقات معينة، ولكنها تبرز تبعيتها أو اعتمادها على العملاء في مواردها وأشكال شرعيتها في سياقات أخرى، وتعتمد مراكز الأبحاث تحديداً بشكل متسق على ثلاث أنواع من العملاء: أولاً: العملاء السياسيون (لاسيما صناع السياسات والأحزاب وشبكات النشطاء)، وذلك طلباً للصلات السياسية التي يمكن أن يتيحوها، ثانياً: العملاء الاقتصاديون (لاسيما المؤسسات والشركات والمانحين الأثرياء)، وذلك طلباً للدعم المادي، ثالثاً: العملاء الإعلاميون (لا سيما الصحافيون والمنافذ الإعلامية كالصحف والدوريات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية) طلباً للانتشار. وفي هذا السياق يتضح أن مراكز الأبحاث مسيرة وليست مخيرة في تحديد مواضيع أبحاثها والأهداف النهائية التي تسعى إلى الوصول إليها.
المشروع الإمبراطوري الأمريكي
منذ عام 2000 ارتسمت معالم المشروع الإمبراطوري الأمريكي من خلال مشروعين فكريين لمؤسستي أبحاث: الأول مشروع القرن الأمريكي الجديد المعنون بـ” إعادة بناء دفاعات أمريكا: إستراتيجية وقوى وموارد لقرن جديد” في 90 صفحة والذي نشر عام 2000، وقد أخذ بتوصيات هذا التقرير بعد تولى جورج بوش الابن السلطة. أما الثاني “مشروع أمريكا الموحدة والقوية” 2013، وهو مشروع حديث في بداية فترة الرئاسية الثانية للرئيس الأسبق باراك أوباما. اللافت في التقريرين إن كلاهما يؤكد على “القدرة الفريدة لدى الولايات المتحدة الأمريكية وإظهار النفوذ على مستوى العالم بأسره”.
تأسس “مشروع القرن الأمريكي الجديد” في عام 1997 من قبل المحافظين الجدد، وفي عام 1998 تحددت محاور مخطط السيطرة الأمريكية على العالم. وبتقلد جورج بوش الابن السلطة تم تطبيق المشروع على أرض الواقع وتم احتلال العراق 2003. وليس هذا المركز وحده من أقر التدخل الأحادي في العراق وضرورة السيطرة وعدم قبول أي منافس عالمي، بل هناك العديد من المراكز التي تبنت نفس التصورات و منها مؤسسة هدسون، ومركز السياسات الأمنية، والمؤسسة الوطنية للسياسة العامة والتي اقترحت في أحد تقاريرها عام 2001، استخداماً أوسع للترسانة النووية، وقد استخدم هذا التقرير كنموذج لإعادة صياغة سياسة إدارة بوش 2001، إضافة إلى مؤسسة هريتيج، والمؤسسة الأمريكية للمنشأة (AEI) وهما مركزي فكر محافظين أثرا بشكل كبير على قرارات الرئيس بوش الابن.
وتحت عنوان “همجية دبابات الفكر”، قالت مجلة “الايكونوميست”: ” إن أمريكا أصبح لديها جيش خطير من المفكرين الذين احترفوا تهييج القوة الأمريكية واستثارتها حتى تندفع أبعد كل يوم، على طريق الحرب، إن هؤلاء الناس وضعوا لأمريكا أجندة وجدول أعمال يتضمن خطة لتغيير الشرق الأوسط كله، وفيما هو واضح فإن الرأسمالية الأمريكية تمول وتدعم هذه المؤسسات الفكرية التي ضلت طريقها، وجنحت إلى الإصرار على تطبيق النظام الرأسمالي حتى في عوالم الفضاء الخارجي، ثم ينتظرون أن يصفق العالم لهذا الجنوح الأمريكي المجنون المتحصن في دبابات الفكر الجديدة”.
وفي عهد ريغان وفرت مؤسسة التراث – وهي مؤسسة محافظة – أحد عشر عضواً في فريقه وعدداً لا يحصى من المسؤولين للإدارة. كان أهم إسهاماتها لرئاسة ريغان “دليل القيادة” وهو دليل انتقال يضم ألف صفحة للإدارة الجديدة، والذي سمته واشنطن بوست بعد ذلك بـ”انجيل فترة ريغان الانتقالية”، الذي كان أحد المراجع الأساسية لإستراتيجية ريغان خلال الحرب الباردة، وتطوير الترسانة النووية، والسعي إلى غزو الفضاء، واقترحت إدارة ريغان مشروع “حرب النجوم” أو ما يعرف بمبادرة الدفاع الاستراتيجي SDI وهذه المبادرة التي تشكل انتهاكاً لمعاهدة الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ABM الموقعة عام 1972.
في عام 2013 تأسس مركز الفكر “مشروع أمريكا الموحدة والقوية”، وهذا المشروع منظمة جديدة تعلن عدم تحزبها، وتتبنى -كهدف- خدمة القيم والأمن القومي الأمريكي. وقد أصدرت هذه المنظمة في شهر آذار 2013 مخططاً من أجل إستراتيجية جديدة للأمن القومي الأمريكي، أعده فريق عمل -بشراكة الحزبين الرئيسيين- مكون من خبراء السياسة الخارجية والأمن القومي، بما في ذلك مسؤولون خدموا في إدارات كل من بل كلينتون، وجورج دبليو بوش الابن، وباراك أوباما. ومن بين ما اقترحه خبراء هذا المراكز تكريس القوة الأميركية، و دور استباقي للولايات المتحدة في القيادة العالمية، وترويج القيم العالمية.
اقتصاد السوق
لم يتركز دور مراكز الأبحاث على القوة العسكرية فقط، بل طال الجوانب الاقتصادية أيضاً. وفي هذا الشأن، يرى بيار دوفراني – المدير التنفيذي لمركز مادارياغا – كوليج أوروبا، والمدير العام الفخري بالمفوضية الأوروبية – أن مراكز الفكر الأمريكية تركز أبحاثها على اقتصاد السوق الرأسمالي، وهي تتلقى تمويلها من رجال المال والشركات، ما يدفع بهذه المراكز إلى خدمة أهداف هذه الشركات وليس المعرفة والموضوعية العلمية.
في كتابه “اعترافات قرصان” يؤكد الخبير الاقتصادي جون بيركنز – عالم اقتصاد وكاتب وناشط سياسي وعالم بيئة أمريكي- على استخدام المنظمات المالية الدولية لخلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدول النامية لهيمنة النخبة الحاكمة التي تدير الحكومة والشركات والبنوك، وذلك بإعداده للدراسات التي بناءً عليها توافق المنظمات على تقديم القروض للدول النامية المستهدفة، بتطوير البنى التحتية بشرط قيام مكاتب الهندسة وشركات المقاولات الأمريكية بتنفيذ هذه المشاريع. ويكشف الباحث أن دراساتهم والأرقام التي تحتويها ذات طابع مخادع، فإذا كان من الناحية الإحصائية البحتة تعتبر تقدماً اقتصادياً “نمو الناتج المحلي القومي” إلا أنه قد يكون نتيجة استفادة أقلية من المواطنين “النخبة” على حساب الأغلبية.
ويضيف أن هؤلاء الخبراء الاقتصاديون قاموا بتطويع اللغة لتغليف إستراتيجيتهم في النهب الاقتصادي، وذلك باستخدام مفاهيم “الحكم الرشيد، تحرير التجارة، حقوق المستهلك” بحيث لا تصبح السياسات الاقتصادية جيدة إلا من خلال منظور الشركات الكبرى.
إن ما يقدمه الخبير بيركنز لهو احد الأدلة التي تكشف ارتباط الخبراء بأصحاب المال والسلطة وعملهم المستديم في مجال إنتاج ما يمكن الاصطلاح عليه بـ”المعرفة المغلفة”، فالدراسات والتقارير تدعي “العلمية” غير أنها علمية من نوعية خاصة، لا تمت بواقع موضع الدراسة، وإنما ارتباطها بعناصر تحدد سلفاً كيفية تصوير ذلك الواقع، ومعه تغتصب العلمية عنوة، فتغلف التقارير بالرداء العلمي لتغطي حقيقة الانحياز والتضليل الذي يميزها.
خاتمة
إن تعدد الجهات التي تحظى مراكز الأبحاث الأمريكية من قبلها بالمساعدات المالية والدعم السياسي والتوجيه الإعلامي، يقودنا إلى التشكيك في مصداقية الإنتاج الفكري لخبراء هذه المراكز، ذلك أن الارتباط الدائم بالممول المالي والداعم السياسي “السلطة” يقود مخرجات هذه المراكز إلى خدمة أهداف هؤلاء بدل خدمة الأهداف الأخلاقية. لقد أصبحت مراكز الفكر الأمريكية تمثل نوع من المعرفة القادرة والمستعدة لخدمة السلطة ورجال المال، بدلا من خدمة الأهداف الأخلاقية.