اذكروا محاسن أمواتكم
سلوى عباس
الموت هو نقطة النهاية للحياة، وهنا يكمن جوهر الموضوع، فكما النقطة تكمل معنى الجملة كذلك الموت يكمل الحياة، ومن الموت تولد حياة، ومن ينظر للحياة بعمق يرى أنه لاشيء يموت بالمعنى الدقيق للكلمة، هناك تحول مستمر للأشياء، والإنسان صورة مصغرة عن الكوكب الذي يعيش فيه.
هكذا أرى الموت انطلاقاً من تجدّد الحياة المستمر، أما من حيث الفقد والفراغ الذي يتركه غياب من يغادرونا في أرواحنا، فهذه مسألة أخرى جميعنا تجرّعنا مرارتها، وفي جعبة ذاكرتنا راحلون كثر لهم في حنايا قلوبنا محبة وأوجاع لن تندمل حتى نلتقيهم. وحتى من التقيناهم عبر هذا الفضاء الأزرق “الافتراضي” فأعتقد أنهم رغم الافتراضية التي جمعتنا بهم، عاشوا معنا أشخاصاً من روح وفكر ولهم في أرواحنا حزن قريب من الفقد الذي نعيشه مع أشخاص شاركونا أدق تفاصيل حياتنا، ولازلت حتى الآن أستحضرهم عبر تصفحي لصفحاتهم، وليس هذا فقط ففي “جوالي” أرقام كثيرة لراحلين لم أحذفها حتى الآن، لأنها تشعرني أنهم لازالوا حاضرين معي، وأظن أن ما يمارس ضد إنسانيتنا من قتل وتدمير يجعلنا نرى الموت بلا معنى.. يموت بعضنا فنبكي أنفسنا بموتهم، نرثيهم ونستذكر محاسنهم ومآثرهم ولحظات جميلة جمعتنا معهم كحق لهم علينا متجاوزين سلبياتهم لأننا لسنا بصدد محاكمتهم، وكم نرثي أيضاً لمن يضيق قلبه عن تجاوز ضغينته تجاه شخص غادر الحياة ولا يستطيع أن يسامحه، هؤلاء للأسف أرواحهم سقيمة وحياتهم لا قيمة لها متناسين أنهم راحلون في يوم ما.
من طبيعة الإنسان أنه يتعايش مع الأشياء والحالات، وحتى مع الموت لأنه جزء أساسي من حياتنا، فنحن دائماً بحالة انتظار لشيء نتناساه أحياناً ونفكر أنه لن يقترب منا، لكن الحقيقة تفرض علينا أن نكون واقعيين ونسلّم بوجوده، أما عن تأثيره فهو يؤثّر كثيراً، وكل شخص يتأثر بطريقة تخصه دون غيره، لكن وللأسف الآن اختلفت ملامح الزمن ومعاييره مثلما اختلف ناسه، فأصبحنا نهمل الأولويات في الحياة ونركز على الهوامش.. يهمنا أن نظهر أمام الآخرين كما يرغبون لا كما نقتنع، نعيش التناقض والازدواجية في سلوكنا وتفكيرنا وعلاقاتنا، نبيح لأنفسنا ما نحاكم الآخرين عليه وندينهم به.. تتساوى الأضداد، فنرى من يتحدث عن القيم والأخلاق لكنه لا يعيش إلا سواد قلبه برؤيته للناس، ونقابل من يشكو من غياب الثقافة عن صحفنا وبرامجنا لكنه عندما يكتب نرى نتاجه بلا لون ولانكهة، ونرى من قضى عمره في مكان وظيفته وأعطاه عصارة روحه وفكره، يجد نفسه في لحظة من الزمن وقد انتهت صلاحية وجوده فيه ومطالب بمغادرته، وبالمقابل شخص آخر قضى عمره يحصد المكاسب من عمله دون أن يقدم مقابلاً، فيكافأ بترقيته لمرتبة خبير.. حتى مجالس عزائنا تحولت إلى ما يشبه المهرجان، أخذت طابع الواجب و”البريستيج”، مع أنها الحالة التي يفترض أن نعيش فيها صدقنا مع أنفسنا ومع الآخر، ومن ثم يقيّم المعزون حسب مراتبهم وليس بصدق قلوبهم وبياض أرواحهم. فلا تسألوا لماذا يفقد الناس عفويتهم وصدقهم.. بل اسألوا لماذا لا يصبحون كذلك إزاء كل ما يمكن أن نفقده في يوم أو في لحظة، بل لنسأل أنفسنا قبل الآخرين، ما الذي يجعلنا نصمد أمام تحولات الزمن وخيباته؟!.